تركيا

أزمة تتجدد.. تركيا تلوّح بخفض تدفق المياه مقابل امتيازات نفطية


في مشهد يعيد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، تتحرك تركيا بخطوات محسوبة نحو صفقة غير مسبوقة، تتضمن تزويد العراق بمليار متر مكعب من المياه مقابل تدفق نصف مليون برميل نفط يومياً إلى الأراضي التركية، وفق موقع “الدبلوماسية الإيرانية”.
ورغم المظهر الاقتصادي البحت لهذه الخطوة، إلا أن جوهرها يعكس تحول المياه إلى أداة ضغط جيوسياسي، توظفها أنقرة في إدارة علاقاتها مع جيرانها، مستفيدة من موقعها على منابع دجلة والفرات، وما راكمته خلال العقود الماضية من تفوق مائي عبر مشاريع السدود العملاقة.

ومنذ إطلاق مشروع “غاب” في ثمانينيات القرن الماضي، الذي شمل بناء أكثر من 20 سداً على الأنهار المشتركة، انتقلت تركيا من كونها دولة منبع إلى لاعب مهيمن في معادلة الموارد المائية. هذا التمركز الاستراتيجي منحها قدرة على التحكم في شريان الحياة لكل من العراق وسوريا، ومع الوقت تحولت “دبلوماسية السدود” إلى ما يشبه سياسة الأمر الواقع، تُدار على قاعدة “الماء مقابل الامتياز”.

ومع تصاعد أزمات المناخ وشح الأمطار، لم يعد القرار بفتح أو إغلاق بوابات السدود مسألة تقنية، بل ورقة تفاوضية تضاهي في أهميتها ملفات النفط والطاقة. وتشير تسريبات دبلوماسية إلى أن أنقرة تسعى من خلال الصفقة الأخيرة مع بغداد إلى تثبيت هذا النهج، بحيث تصبح المياه مورداً سياسياً يمكن مقايضته بسلع أو تنازلات.

والعراق الذي يعيش واحدة من أسوأ موجات الجفاف في تاريخه الحديث، يجد نفسه أمام معادلة معقدة: فقبول العرض التركي يعني الحصول على حصة مائية تعيد الحياة إلى أراضيه الزراعية، لكنه في المقابل يرهن جزءاً من ثروته النفطية لقرار سياسي خارجي. أما الرفض، فيعني استمرار النزيف المائي وتفاقم أزمة الأمن الغذائي.
ويرى محللون أن الصفقة تمثل اختباراً لقدرة بغداد على التفاوض من موقع الندّية، في ظل موازين قوى تميل كفته لأنقرة التي تملك مفاتيح المياه وتتحكم بمنابعها.

ابتزاز جيوسياسي بغطاء اقتصادي

ولا ينفصل التحرك التركي عن سياسة أوسع تسعى أنقرة من خلالها لتكريس نفوذها الإقليمي عبر أدوات “ناعمة” ظاهرياً، لكنها شديدة التأثير استراتيجياً، فالمياه، كما يرى المراقبون، تحولت إلى “النفط الجديد” الذي يعيد توزيع القوة في الشرق الأوسط.
وبينما تواجه إيران وأفغانستان أزمات مشابهة على صعيد الأنهار المشتركة، يبدو أن تركيا تسعى لتصدير نموذجها في “المقايضة المائية”، ما يثير مخاوف من سباق إقليمي قد يحول الأنهار إلى أدوات ابتزاز متبادل بدل أن تكون جسور تعاون.

وتتصاعد التحذيرات من أن المضي في هذه السياسات سيضع المنطقة أمام “عصر العطش السياسي”، حيث تتحول المياه إلى عامل انقسام لا استقرار. ويؤكد خبراء بيئة واقتصاد أن مواجهة هذا المنحى لا تكون بالمساومات الثنائية، بل عبر اتفاقات إقليمية شاملة تضمن حصصاً عادلة وتضع حداً لاستخدام المياه كسلاح تفاوضي.

وفي الوقت الذي تعلن فيه أنقرة عن خطط جديدة لتوسيع مشاريعها المائية، يبقى العراق مطالباً بصياغة استراتيجية مائية – نفطية موحدة، تحفظ سيادته على موارده وتمنع تحويل حاجته للماء إلى باب للابتزاز السياسي. إنها معركة صامتة تدور في مجاري الأنهار، لكنها قد تحدد ملامح التوازن الإقليمي لعقود مقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى