إرهاب «داعش» هدمٌ للتعايش… يا تُرى مَن المستفيد؟
مشاهد ظلامية وسوداوية طفت على السطح في الفترة الماضية وعادت بنا إلى شريط ذكريات مزعج ومحزن ومؤلم. ما حدث في سجن الحسكة السورية، والهجوم على أفراد من الجيش العراقي في ديالى العراقية، مؤشر خطير ويبعث على القلق والخشية من وجود عناصر نشطة وفاعلة لتنظيم «داعش» في سوريا والعراق.
انبعاث الحركات الراديكالية من جديد يثير تساؤلات حول حقيقة نموها ونشاطها وهل بإمكانها أن تعود للتنفس من دون دعم خارجي؟ وهل فعلاً هناك أطراف ترى في عودة هذه الجماعات مصلحة لها وتحقيقاً لأجندتها الخفية؟ ليس سراً أن الاستفادة من هكذا جماعات تسهم في بعثرة الأوراق وتؤثر على مسار أولويات المجتمع الدولي في التعاطي مع ملفات المنطقة. إعطاء الغطاء للجماعات الإرهابية هو عمل أسوأ وأشنع من العمل الإرهابي نفسه، خصوصاً عندما تقول دول إقليمية علانية إنها ضد الإرهاب وجماعاته، ولكنها تدعمها في الخفاء مادياً ولوجيستياً. عودة هذه الجماعات المتطرفة إلى الساحة وبهذه الخطورة تعني هدماً لبناء التواصل الإنساني وانتكاسة لمفاهيم التسامح والتعايش وإدخال المنطقة من جديد في دوامة العنف وعدم الاستقرار. ما حدث في سوريا والعراق من أعمال مأساوية وهروب سجناء ومقتل عناصر من الجيش العراقي من قِبل «داعش» يؤكد أن المعركة طويلة وما زلنا في الشوط الأول ولن نبلغ مرحلة متقدمة في المواجهة الميدانية والفكرية ما دام لا يوجد تعاون وتكاتف إقليمي ودولي لمكافحته.
لم تشهد جماعة أو حركة عبر التاريخ تحالفاً ضدها كما واجهه «داعش» بدليل التحالف الدولي ضده عسكرياً وفكرياً وشعبياً. هذا التنظيم مات شكلاً هنا أو هناك إلا أنه لا يزال قائماً وماثلاً فكراً ومضموناً ولا يلبث أن يسعى لإعادة بناء هيكله التنظيمي متى ما توفرت له الحركة والفرص. ورغم التعاون الأمني والاستخباراتي الدولي فإن «داعش» لا يزال يمثل تحدياً للإرادة الدولية ما دام لم يتم اقتلاع أسباب نشوء هذا الفكر ودوافعه ومحفزاته، ناهيك باستغلاله كورقة في ميزان معادلات القوى في الصراعات بين أطراف ودول خارجية، كما حدث في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان. بعيداً عن التبسيط، نقول إن المسألة هنا أكبر مما يُطرح من تنظير، كون الصراع هنا فكري في المقام الأول، ما يعني أنه قد يتعرض للمرض والضعف والوهن أحياناً ولكن ليس الموت أو التلاشي. بعبارة أخرى «داعش» قد يختفي من الساحة، وهذا ما حدث فعلاً، ولكن لا نستغرب أن يظهر مرة أخرى بعد شهور أو بضع سنوات، وهذا ما حدث الآن في بعض الدول إنْ أردنا الحقيقة. لا غرابة أن تنشط كوادر تنظيم «داعش»، فولاء الآيديولوجيا أشد عمقاً وضراوة من أي ولاءات أخرى، ولذا إعادة التجنيد لا تستغرق وقتاً. إعادة تشكل الحركات الراديكالية وتوالد الخلايا تتم في البيئة الرخوة والساحات غير المستقرة.
فكرياً كما ذكرت من قبل أن أدبيات «داعش» تختصر كل قصص التطرف والتشدد الديني، فعندما تقوم بتفكيك الخطاب تجده متشدداً في مضامينه ولا يمتّ إلى الإسلام ومعانيه بِصلة، ما يكرّس الانتقائية وتوظيف النص لدى هذه الفئات المتطرفة. الخيط الأول لفهم أبعاد سلوك ما هو معرفة طبيعة الفكر الذي أنتجه. العقل هو من يقود تلك المرحلة، ولكنه يخضع بطبيعة الحال للآيديولوجيا التي تعشش في قاعه فتسيّره أينما أرادت. بعبارة أخرى عندما يُختطف العقل من تيارات متطرفة فإن المحصلة تكون سلوكيات مرفوضة ومقززة تتعارض مع الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية. مع أن العقل عادةً ما يعمد إلى ترشيد السلوك وفلترة النزعة الانفعالية، لكن ما يحدث مع تلك النماذج هو هيمنة اللذة المؤدلجة وبالتالي السيطرة على العقل، فيتشكل الإحساس على هيئة سلوك، وغالباً ما يكون عنفياً.
شريعة تحث على الرحمة والإخاء والعفو والتسامح والتعايش بين الأمم والشعوب وتحفل بالقيم الإنسانية لا يمكن أن تُجيز مثل هذه الأفعال، وبالتالي ليس من المعقول أن ينتمي هؤلاء للإسلام، وهم الذين أساءوا له ولمعانيه السمحة بخطابهم المتشدد في بنائه وذهنيتهم الدموية وسلوكهم العنفي، وهنا قطعاً تكمن إشكالية فهم النصوص وتفسيرها وتوظيفها لدى هذه الفئة المتشددة.
من المهم عدم السماح لأي حركات أو جماعات متطرفة أو إرهابية بالعودة أو السماح بإعادة تشكيلها من جديد لأن ذلك بكل تأكيد سيدفع باتجاه القطيعة مع العالم وسيعيدنا إلى المربع الأول ويعزز مفهوم الصدام والحروب والإرهاب. هذه مسؤولية تقع على عاتق المجتمع الدولي وأيضاً مسؤولية الحكومات الإسلامية التي يجب أن تعلن عن مواقفها بكل وضوح. أيضاً من المهم إيجاد آليات للتقريب بين المذاهب الإسلامية لمواجهة وباء الطائفية والمذهبية والصراع الفكري الذي استشرى في جسد العالم الإسلامي، وأهمية مراجعة الخطاب الديني بما يقطع الطريق على استغلاله من هذه الجماعات الهمجية. نحن بحاجة لخطوات تنويرية وإصلاحية في العالم الإسلامي هدفها بلورة أفكار وصيغ لمراجعة وتنقية الموروث. نحلم بعالم جديد حتى تتحقق ثقافة التسامح، وهي ما تقرّب الحضارات بعضها من بعض، وتجعل الحوار فيما بينها أكثر إلحاحاً من أي فترة تاريخية مرّت بها البشرية.