الأسباب الحقيقية لحرب أوكرانيا.. تسجيل يكشف ما قبل الانفجار
لم تكن حرب أوكرانيا، كما قُدِّمَت للرأي العام الغربي، انفجارًا لا مفرّ منه، فخلف الخطاب الرسمي الصلب، كانت هناك مسارات أخرى طُرحت لتتحول لاحقًا إلى أسرار ثقيلة لا تخرج إلى العلن إلا عبر زلة لسان أو «مقلب» غير محسوب.
فما كُشف مؤخرًا لا يهزّ رواية الحرب فحسب، بل يضع علامة استفهام كبرى فوق أخلاقيات القرار السياسي حين يُفضَّل منطق الصدام على تسوية كانت كفيلة بتجنيب بلدٍ بأكمله الدمار.
فالاعتراف الصادر عن مسؤولة رفيعة سابقة في إدارة بايدن لا يفتح فقط ملف «الفرصة الضائعة»، بل يعيد طرح سؤال: هل اختيرت الحرب، لا لأنها حتمية، بل لأنها بدت أقل كلفة سياسيًا من تقديم تنازل استراتيجي؟ بين حياد كان ممكنًا، وحرب قُدِّمت كخيار وحيد، تتبدّى فجوة خطيرة بين ما قيل علنًا وما نوقش خلف الأبواب المغلقة، فجوة دفعت ثمنها أوكرانيا دمًا وأرضًا ومستقبلًا.
فماذا حدث؟
يقول موقع «ريسبونسبل ستيت كرافت» الأمريكي، إنه ليست المرة الأولى التي يعترف فيها مسؤولون — بعد فوات الأوان — بأن خيار استبعاد انضمام أوكرانيا إلى «الناتو» لتجنب العملية العسكرية الروسية كان مطروحًا ثم جرى استبعاده.
وبحسب الموقع الأمريكي، فإنه فيما يخص حرب أوكرانيا، لطالما وُجدت حقيقتان متوازيتان؛ الأولى يروّج لها مسؤولون سابقون في إدارة جو بايدن عبر الخطب واللقاءات الإعلامية، وتقوم على أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لا علاقة لها بتوسع حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة داخل أوكرانيا التي باتت اليوم مدمَّرة، وأنه لم يكن بالإمكان فعل أي شيء لمنعها، وأن أي مفاوضات لإنهاء القتال بعد اندلاع الحرب لم تكن فقط مستحيلة، بل «غير أخلاقية».
أما الحقيقة الأخرى، فهي «المعاكسة تمامًا»، بحسب موقع «ريسبونسبل ستيت كرافت» والذي قال إنها «تطفو أحيانًا إلى السطح عندما يظن المسؤولون أن أحدًا لا يستمع إليهم».
ولخّصتها مؤخرًا أماندا سلوت، المساعدة الخاصة السابقة للرئيس والمديرة الأولى لشؤون أوروبا في مجلس الأمن القومي، خلال مقابلة مع روس اعتقدت أنهم مساعدين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قائلة: «أجرينا بعض النقاشات حتى قبل بدء الحرب حول ماذا لو خرجت أوكرانيا وقالت لروسيا: حسنًا، لن ننضم إلى الناتو، إذا كان ذلك سيوقف الحرب ويمنع العملية العسكرية— وهو ما كان قد ينجح بالفعل في ذلك الوقت».
وأضافت: «وبعد مرور ثلاث سنوات الآن، يظل السؤال مطروحًا: هل كان من الأفضل فعل ذلك قبل بدء الحرب؟ أو خلال محادثات إسطنبول؟ بالتأكيد كان سيمنع الدمار وفقدان الأرواح».
وعندما سُئلت بعد لحظات عمّا إذا كان بإمكان أوكرانيا وشركائها الغربيين تجنب الحرب بالكامل، وما إذا كانوا قد «ارتكبوا خطأً ما»، عادت سلوت لتقترح — من دون دفع — أن معالجة المخاوف الروسية بشأن توسع الناتو ربما كانت السبيل لمنع الحرب.
وقالت: «إذا أردتَ كتابة نسخة بديلة من التاريخ، كان أحد الخيارات أن تقول أوكرانيا في يناير/كانون الثاني 2022: حسنًا، لن ننضم إلى الناتو، وسنبقى دولة محايدة». وأضافت: «وكان بإمكان أوكرانيا إبرام صفقة في مارس/آذار أو أبريل/نيسان 2022 خلال محادثات إسطنبول».
وبحسب الموقع الأمريكي، إن تفكيك هذه العبارات القليلة مهم لفهم دلالتها الكاملة؛ فسلوت، وهي مسؤولة سابقة رفيعة في إدارة بايدن وشاركت عن قرب في ملف أوكرانيا، تقول عمليًا إن:
- تأكيد أوكرانيا الصريح على حيادها كان سيمنع على الأرجح وقوع العملية العسكرية.
- ذلك كان سيحول دون الدمار الهائل وسقوط أعداد ضخمة من القتلى خلال السنوات الثلاث الماضية.
- كان بإمكان أوكرانيا إبرام هذا الاتفاق حتى وقت متأخر نسبيًا، أي خلال محادثات إسطنبول بعد الغزو.
- إدارة بايدن درست هذا الخيار لمنع الحرب، لكنها رفضته في النهاية.
لكن لماذا رفض فريق بايدن هذا الخيار، إذا كان يعني منع حرب كانت — بكل المقاييس — دامية ومكلفة بشكل هائل لملايين الأوكرانيين؟
قالت سلوت عن موقفها الشخصي: «كنت غير مرتاحة لفكرة أن تضغط الولايات المتحدة على أوكرانيا للقيام بذلك، بما يعني ضمنيًا منح روسيا نوعًا من مجال النفوذ أو حق الفيتو».
وعن تفكير بايدن، أضافت: «لا أعتقد أن بايدن شعر أن من حقه أن يملي على أوكرانيا ما يجب فعله، أو أن يطلب منها عدم السعي للانضمام إلى الناتو».
وبعبارة أخرى، «اعترفت سلوت بهدوء بأنها — على الأقل — فضّلت السماح باندلاع الحرب على منح روسيا فيتو فعليًا على عضوية الناتو. غير أن ادعاءها بأن إدارة بايدن كانت متحفظة على الضغط على أوكرانيا يصعب تصديقه».
فالسياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا لطالما تضمنت ضغوطًا على المسؤولين والسكان لقبول إجراءات لم يكونوا راغبين بها، خصوصًا في ملف الناتو، بحسب الموقع الأمريكي، الذي أشار إلى جورج دبليو بوش دفع باتجاه انضمام أوكرانيا إلى الحلف رغم المعارضة الشعبية الواسعة في مطلع الألفية.
تسريبات
وتُظهر برقيات دبلوماسية مسرّبة — نشرتها قبل عامين — كيف ناقش مسؤولون أمريكيون آنذاك مع نظرائهم الأوكرانيين سبل جعل الرأي العام «أكثر تقبّلًا» للفكرة، بل إن هذا كان في كثير من الأحيان دور جو بايدن نفسه خلال عهد أوباما، حين ضغط على المسؤولين الأوكرانيين لتمرير إصلاحات داخلية غير شعبية فرضها صندوق النقد الدولي، بحسب «ريسبونسبل ستيت كرافت».
كما تلمّح سلوت إلى اعتراف آخر، حين ذكرت أن أوكرانيا كان بإمكانها إبرام صفقة بشأن وضعها في الناتو خلال محادثات إسطنبول مطلع 2022. وقالت: «أعلم أن هناك حينها تباينًا في وجهات النظر بين جيوش دولنا حول الهجوم المضاد. وأعتقد أن الأمل الكبير في إدارة بايدن كان أن تستعيد أوكرانيا أراضيها ثم تتفاوض من موقع أقوى. لكن ذلك لم يسر كما أراد أحد».
وبحسب «ريسبونسبل ستيت كرافت»، فإن هذا يقترب كثيرًا مما ذُكر طويلًا على لسان مسؤولين ومصادر متعددة عن تلك المحادثات: أن زيلينسكي تعرّض لضغوط لرفض الصفقة والسعي بدلًا من ذلك إلى «النصر العسكري»، وهي فكرة كارثية دعمتها — بحسب تقارير — حكومات بريطانيا والولايات المتحدة وعدد من دول شرق أوروبا في الناتو.
وسلوت ليست الأولى التي تعترف بذلك، فقد وثّق «ريسبونسبل ستيت كرافت» قبل عامين تصريحات صريحة لكل من الأمين العام السابق للناتو ينس ستولتنبرغ، ومديرة الاستخبارات الوطنية السابقة في إدارة بايدن أفريل هاينز، أكدا فيها أن توسع الناتو المحتمل إلى أوكرانيا كان جوهر المظلومية التي دفعت بوتين إلى العملية العسكرية، وأن الحلف — وفقًا لستولتنبرغ — رفض تقديم تنازل في هذا الشأن.
واليوم، وبعد ثلاث سنوات، وافق زيلينسكي علنًا على هذا التنازل لدفع مفاوضات السلام قدمًا — لكن بعد أن أصبحت أوكرانيا أنقاضًا، واقتصادها مدمّرًا، وسقط مئات الآلاف بين قتيل وجريح، فيما يعاني الناجون صدمات وإعاقات واسعة النطاق.
وبحسب «ريسبونسبل ستيت كرافت»، فإن كل ذلك سيسجل على الأرجح كأحد أعظم الفرص الضائعة في التاريخ. فقد قال منتقدو الحرب وسياسة الناتو منذ البداية إن الحرب وتداعياتها المدمرة كان يمكن تجنبها عبر استبعاد انضمام أوكرانيا إلى الناتو صراحةً، ليُتّهموا حينها بترديد «دعاية الكرملين». ليتبيّن في النهاية أنهم كانوا يرددون فقط الأفكار الخاصة لمسؤولي إدارة بايدن أنفسهم.
