الدعم “المفروض” لأوكرانيا
قبل أيام أثار رئيس وزراء باكستان نقطة مهمة جدا في الدعم الدولي “المطلوب” لأوكرانيا خلال حربها مع روسيا. عمران خان امتعض من ضغوط الغرب على بلاده لمعاداة موسكو على خلفية تلك الأزمة.
وقال إن إسلام أباد يمكن أن تدعم أي جهود لإنهاء الحرب وإحلال السلام في أوكرانيا، ولكن ليس بدعم طرف ضد طرف أخر.
الحياد السياسي والعسكري إزاء الحرب الأوكرانية لا يقبل من الغرب. المعادلة القائمة هي أن دول العالم يجب أن تختار الضفة الروسية أو الأوروبية والأمريكية، بالأقوال والأفعال. فلا يكفي أن تعلن رفضك للحرب كوسيلة لحلحلة الخلافات بين الدول، وإنما يجب عليك أن تدعم أوكرانيا بالسلاح والمال كي يكون رفضك هذا صادقا.
لماذا يجب على دول العالم محاربة روسيا من أجل أوكرانيا؟ وبصياغة أخرى أدق، لماذا يجب عليها أن تتبنى سياسة خارجية توافق أجندة الغرب في المواجهة مع روسيا؟ فالقاصي والداني يعرف أن الحرب الأوكرانية حلقة من حلقات صراع أكبر بكثير بين ورثة الاتحاد السوفيتي وأرباب وفرسان القطبية الغربية في الألفية الثالثة.
الأمر ربما يكون أكبر حتى من روسيا نفسها، والغرب يريد رسم خارطة جديدة للقوى العظمى بحصة أصغر لروسيا والصين بعدما أصبحتا “تهددان” مصالح أمريكا وأوروبا في القارات كافة. لتكون الحرب الأوكرانية مجرد نقطة العبور نحو العالم الجديد الذي تتبع فيه موسكو وبكين رؤية ومشيئة واشنطن للحياة على الأرض.
حتى لو كان ما يجري في أوكرانيا لا يتجاوز حدود خلاف بين دولتين، واختار الغرب دعم كييف لأسباب تتعلق بحماية أمن دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فليس بالضرورة أن يشارك العالم عنوة في محاربة روسيا والانخراط في مواجهة مباشرة معها، سواء كانت هذه المواجهة عسكرية أو اقتصادية أو تقنية وتكنولوجية.
المفارقة هي أن دول الغرب تختار من العقوبات على روسيا ما ينعكس بأقل ضرر ممكن عليها. حتى أن بعضها يجاهر بأن قطاعات ومؤسسات روسية لن تشملها العقوبات لأن ذلك ينطوي على مخاطر اقتصادية واجتماعية عليها. أما عندما يتعلق الأمر ببقية دول العالم فما عليها إلا أن تعلن قطيعة مع موسكو على كل المستويات.
لن تتوقف دول الاتحاد الأوروبي عن استيراد الطاقة الروسية بكل أشكالها، وستبحث عن بدائل لصادرات موسكو إليها على مدار سنوات وليس أيام أو أشهر. حتى بريطانيا التي لا تستورد من نفط وغاز روسيا مجتمعين، أكثر من 10% من احتياجاتها، لن تتخلى عن الطاقة الروسية إلا بشكل تدريجي حتى نهاية عام 2022.
المفارقة الثانية هي أن الغرب لا يريد المواجهة المباشرة مع روسيا، عسكريا أو اقتصاديا. دوله تدعم أوكرانيا بالمال والسلاح لتطيل أمد الحرب إلى ما لا نهاية. ولا يهم كم يقع من الخسائر البشرية للطرفين، وكم من مناطق ومدن أوكرانية سوف تتهدم، وكم من أوكراني سيتحول إلى لاجئ أو نازح يهيم على وجه هربا من الموت.
المهم فقط هو أن “يفشل” الروس في نهاية المطاف كما تقول لندن التي لم تستقبل بعد أسبوعين من “الغزو” إلا نحو 750 لاجئ أوكراني. فلديها مخاوفها التي تستدعي فحصا أمنيا دقيقا للأوكرانيين الراغبين بالانضمام إلى أفراد عائلاتهم المقيمين في المملكة المتحدة قبل الحرب، ومن ليس له قريب لا لجوء له في بريطانيا.
كل هذه المخاوف والحسابات والاحتياطات حق للغرب في حربه مع الروس، أما بقية دول العالم فلا يحق لها الخوف، ولا يحق لها مراعاة مصالحها الخارجية في العلاقة مع روسيا. يتوجب عليها فقط أن تفرض عقوبات على موسكو، وتفتح أبوابها أمام الأوكرانيين، وتغدق الدعم المالي والعسكري على كييف وجيشها ومرتزقتها.
في الواقع، ما يقوم به الغرب في مواجهة روسيا يبعث القلق في نفس أي دولة حول العالم، ويجعل الجميع ينظر إلى نفسه في مرآة هذه الحرب. فما يحدث اليوم ليس مجرد دعم جيش لجيش ولا دولة لدولة ولا شعب لشعب. هو حصار في كل أشكال الحياة وقطاعات العمل، تشارك فيه جميع منظمات ومؤسسات وشركات الغرب.
شركات وجبات سريعة تغادر الأسواق الروسية. وكذلك شركات تعمل في المال والطاقة والتكنولوجيا والطيران والسياحة والاتصالات وحتى الملابس. جميعهم يعاقبون الروس لأن رئيسهم قرر إطلاق عملية عسكرية في أوكرانيا لحماية أمن بلاده القومي بعد أن وصل حلف شمال الأطلسي “الدفاعي” إلى حدودها الغربية.
لم يسلم حتى الرياضيين والفنانين والأكاديميين والطلبة الروس من العقاب الغربي. فجأة بات كل شيء محرم على الشعب الروسي. لم يعد يحق لهم تنظيم بطولات أو ألعاب، ولم يعد يمكنهم المشاركة في مسابقات، أو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو السفر خارج بلادهم لأغراض السياحة أو العمل أو أي شيء أخر.
كيف تحولت كل هذه الشركات والمنظمات والمؤسسات “غير السياسية” إلى أسلحة وأدوات حرب بين ليلة وضحاها؟ من أوعز لها للقيام بذلك؟ ومن يا ترى يمتلك قرار هذه الفعاليات حقيقة حتى يزج بها في أتون الحرب، مثلها مثل مصانع السلاح والجيوش النظامية والفرق الخاصة والقواعد العسكرية وحتى السفارات والقنصليات.
كل هذا ويطالب الرئيس الأوكراني بالمزيد. كل هذا يراه فلاديمير زيلينسكي غير كافٍ ولا يجدي في حسم الحرب لصالح بلاده. يتنقل افتراضيا من برلمان إلى أخر في دول الغرب مستجديا الطائرات والدبابات التي يسمع صوتها في ميدان المعارك، وعندما فقد الأمل بذلك شعر بالندم لإبداء رغبته بالانضمام إلى الناتو أصلا.
الندم الذي يعيشه زيلينسكي الآن حتى لو كان صادقا، لم يعد مهماً بعدما باتت كبرى مدن أوكرانيا تحت الحصار الروسي. والدعم الذي يطالب به الغرب جميع دول العالم “نصرة” للأوكرانيين لن يوقف فلاديمير بوتين، إلا أن قرر الأوروبيون والأمريكيون وحلفاؤهم شن حرب على الروس. عندها فقط ستنقلب الموازين، وهذه الحرب العالمية ستفرض تحالفاتها وانقساماتها بنفسها، لأنها ببساطة ستنجب خارطة جديدة للكوكب، سياسية واقتصادية.