سرعان ما تحولت الحرب التجارية الأمريكية الصينية إلى حرب تكنولوجية.
حيث رأت الولايات المتحدة أنه يمكنها الوقوف في وجه صعود الصين بشل قدرة شركاتها على الوصول للتكنولوجيا المتقدمة الأمريكية. وكانت محاولة الولايات المتحدة شل حركة الشركات الصينية التكنولوجية العملاقة عبر حرمانها من بعض المنتجات التكنولوجية الحرجة مثل أشباه الموصلات. وكما هو معروف ردت الصين على ذلك بأن جعلت من الاستقلال التكنولوجي هدفها الأول في خطتها الخمسية الحالية 2021/2025 بتخصيص نحو 1.4 تريليون دولار، لتحقيق السبق التكنولوجي في العديد من القطاعات مثل الذكاء الاصطناعي واستخدام الهيدروجين كوقود والسيارات الكهربائية وغيرها من التكنولوجيات، ولكن كان في القلب من ذلك تحقيق الاستقلال في مجال إنتاج أشباه الموصلات حتى تحرر شركاتها ومستقبلها الصناعي من الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية.
في هذا السياق العالمي الذي يشير إلى خطورة الاعتماد التكنولوجي على الآخرين، كتب هرمان هاوزر مدير مؤسسة أماديوس مقالا بعنوان “الكفاح من أجل السيادة التكنولوجية في أوروبا”، يتعرض فيه لما نجم عن الحرب التكنولوجية الأمريكية الصينية من آثار خاصة على بلد مثل المملكة المتحدة، أو لقطب عالمي كبير مثل أوروبا الموحدة، حيث أضحت السيادة التكنولوجية هاجسا عالميا.
ويقول هاوزر في مقاله إنه في السابق حينما كانت الدول تستخدم بشكل دوري قواتها المسلحة لإكراه الآخرين على الخضوع أو التبعية لها، كانت السيادة بصورة أساسية مفهوما جغرافيا أو عسكريا. ولكن المصطلح اتخذ مؤخرا أبعادا أخرى.
فقد كشف وباء كوفيد- 19، على سبيل المثال، عن اعتماد الغرب على الصين في إمدادات أقنعة الوجه ومعدات الحماية الشخصية. وكان الرئيس الأمريكي السابق قد عسكر التكنولوجيا الأمريكية ونظم الدفع، في محاولة لتحقيق السيادة التكنولوجية الأمريكية، وهو ما أصبح سريعا قضية استراتيجية مركزية، على الأقل بالنسبة لأوروبا.
فلم يكن هناك أي احتجاج جماهيري حينما قام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في العام الماضي بالضغط على رئيس الوزراء البريطاني، لكي يلغي اشتراك التكنولوجيا الصينية ممثلة في شركة هواوي الصينية في شبكة 5G في المملكة المتحدة، حيث ألمح إلى أن الولايات المتحدة سوف تتوقف عن المشاركة الاستخباراتية مع المملكة المتحدة إذا لم تفعل حكومة المملكة المتحدة ذلك. وأشار بومبيو كذلك إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تتحكم في البنية الأساسية لنظام الدفع في مدينة لندن وأن كل رقيقة إلكترونية مستخدمة في المملكة المتحدة تتطلب برنامج كمبيوتر للتصميم الإلكتروني.
وكان تغاضي المملكة المتحدة عن اعتمادها التكنولوجي على بلدان أخرى يرجع إلى اعتقادها بأن سلاسل الإمداد آمنة وكانت تنظر لأمريكا باعتبارها حليفا يمكن الاعتماد عليه: وهما افتراضان يعدان موضع تساؤل الآن.
فمن الآن فصاعدا، فكل بلد أو مجموعة من البلدان ينبغي أن تسأل نفسها ثلاثة أسئلة. الأول، هل نحن ننتج التكنولوجيا التي نحتاجها؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فالسؤال الثاني هو هل نحن لدينا طرق للوصول لهذه التكنولوجيا من عدد من المصادر؟ وفيما إذا ظلت الإجابة هي بالنفي، فالسؤال الثالث هو هل نضمن مدخلا غير منقطع على المدى الطويل (أكثر من خمسة أعوام) لاحتكار ما أو قلة احتكارية من الموردين من بلد معين؟ وهذا البلد هو في هذه الحالة إما الولايات المتحدة وإما الصين.
والبلد الذي سيجيب بلا على الأسئلة الثلاثة السابقة هو بلد معرض لخطر الإكراه التكنولوجي والذي لا يعد أقل خطرا من الإكراه العسكري الذي كان قائما بالأمس.
فهل لدى المملكة المتحدة كل التكنولوجيات الحرجة التي تحتاجها لكي يقوم اقتصادها وحكومتها بوظائفهما على خير وجه؟ مع الأخذ في الاعتبار تكنولوجيات مثل 5G، ونظم الدفع، وأشباه الموصلات والإجابة بكل وضوح هي لا.
كما أنه من غير المحتمل أن تستطيع المملكة المتحدة بمفردها ضمان الوصول الآمن غير المنقطع والطويل المدى لهذه التكنولوجيات.
ويرى هاوزر أنه على الرغم من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فالخيار العاقل الوحيد للمملكة المتحدة هو الحصول على سيادتها التكنولوجية بالتعاون مع القوة الثالثة العظمى في العالم وهي الاتحاد الأوروبي. فالاتحاد يعي التهديدات الحقيقية للسيادة في مجال التكنولوجيا الفائقة للقرن الحادي والعشرين ويطور سياسات لحماية نفسه.
وتدرك أوروبا على وجه الخصوص مخاطر تعرضها لأضرار جانبية في الحرب التجارية الأمريكية الصينية الراهنة. فاستخدام ترامب بتجاوز عدواني للسيطرة على أشباه الموصلات لشل شركة هواوي خدم كمنبه للحكومة الصينية، دافعا إياها إلى بدء جهد على المستوى الوطني ممولا بكثافة من الدولة لجعل البلد مستقلا في إنتاج أشباه الموصلات.
وبوسع الصين أن تفوق إنفاق الولايات المتحدة على تطوير أشباه الموصلات، واستطاعت في عدة حالات نشر عدد من المهندسين المتدربين جيدا، بما لا يترك أي مجال للشك في أن البلد سوف يستطيع بسرعة إنهاء اعتماده في هذا القطاع على الولايات المتحدة.
والبديل العاقل لاستراتيجية ترامب هو مساعدة الصين على تطوير صناعة أشباه الموصلات، اعتمادا على مبدأ المعاملة بالمثل. فعلى سبيل المثال، في مقابل حقوق الملكية الفكرية والدعم الفني، يمكن للصين أن تمنح موافقات لبناء مصانع لأشباه الموصلات في أوروبا لخدمة الأسواق الأوروبية، وبذا يتحقق التشارك في الملكية الفكرية. وهذه الاستراتيجية سبق أن حققت نجاحا في حالة صناعة السيارات اليابانية.
والسيادة التكنولوجية هي بشكل خاص قضية بارزة اليوم في المملكة المتحدة، حيث ينبغي على حكومتها خلال وقت قصير تقرير فيما إذا كانت ستسمح لعملاق التكنولوجيا الأمريكية نيفادا بالاستيلاء المخطط على شركة آرم البريطانية التي تقوم بتصميم رقائق أشباه الموصلات. وشراء نيفادا لهذه الشركة التي يوجد معالجها الدقيق في معظم السيارات وفي البنية الأساسية لمعدات تكنولوجيا المعلومات وكذلك في 95% من التليفونات المحمولة سيعمل في كل الأحوال على تعزيز قوى الإكراه الأمريكي إزاء المملكة المتحدة، ويحرمها من ورقة مفاوضة في الكفاح من أجل الاستقلال التكنولوجي.
وفيما هو أبعد من الحفاظ على استقلالية آرم، فإن على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي معا أن يقيما تمويلا يبلغ مقداره 120 مليار دولار من أجل الاستقلال التكنولوجي لمواجهة مشروع إنفاق الولايات المتحدة لمائة مليار دولار من أجل سيادتها التكنولوجية وفي مواجهة إنفاق أكبر من هذه المقادير في الصين. وأوروبا بحاجة لأن تبني بدائل للاحتكارات التكنولوجية الصينية وللملكية الفكرية الأمريكية وللتكنولوجيا الرقمية واحتكارات نظم الدفع.
والحل الوحيد المستقر والعادل في رأي هاوزر لمشكلة السيادة التكنولوجية العالمية هو تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، لخلق اعتمادات متبادلة لكل من الولايات المتحدة والصين وأوروبا. وتحقيق هذا ربما يؤدي أيضا إلى نظام دولي تنتفي فيه التهديدات العسكرية.
وربما يكون هذا الحل الوحيد المستقر هو تفكير مثالي في حالة عالمنا المعاصر، لكن مقال هاوزر يستحق الانتباه الكامل لما أطق عليه “السيادة التكنولوجية”، إذ يبدو أن المستقبل سوف يحكمه السباق من أجل إدراك هذه السيادة.