اخترنا لكم

المرض العضال الذي جلبه بوتين


«لستُ روسياً!» تلك هي العبارة الممهورة على قميص «تي شيرت» جديد يُقال إنه يُباع بكثرة مثل الكعك الساخن في قازان، عاصمة جمهورية تتارستان الذاتية الحكم. وهناك نسخة مماثلة تحمل عبارة «أنا لستً روسياً، أحبني!» وتُحقق مبيعات جيدة في أوفا، عاصمة باشكورتوستان، وهي جمهورية أخرى تتمتع بالحكم الذاتي داخل الاتحاد الروسي.
الرسالة التي يرغب صانعو هذه القمصان في نشرها أن العملية العسكرية التي شنها فلاديمير بوتين قد تحظى بدعم الأغلبية الروسية لكنها لا ينبغي أن تؤدي إلى كراهية عالمية للدول الأخرى داخل الاتحاد الروسي الكبير.
تنتقل الرسالة نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما ينقلها عدد متزايد من المواطنين الروس الإثنيين داخل الاتحاد ممن يسعون إلى المأوى حالياً -على الأقل مؤقتاً- في تركيا، وإسرائيل، والإمارات العربية المتحدة.
لا أحد يدري كيف قد تنتهي مغامرة أوكرانيا بالنسبة لبوتين. ولكن مهما بلغت نهايتها فقد تؤثر على التدابير الحساسة -وربما الهشة- التي اتُّخذت بين «بلدان» الاتحاد السوفياتي في أعقاب انهيار الإمبراطورية السوفياتية.
النصر الواضح من شأنه أن يعيد إشعال رماد القومية الروسية الملتهبة، أو «الشوفينية الروسية العظمى» كما وصفها لينين. وقد حذر بوتين ذاته من عودة هذا «الوحش» في غير مناسبة، حيث يصور القومية بوصفها «مرضاً».
وطبقاً لبوتين، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي دفع البلاد إلى «حافة الحرب الأهلية»، الأمر الذي نجح الرئيس بوريس يلتسين في التعامل معه عبر سلسلة من التنازلات مع «البلدان» التي ظلت ضمن الاتحاد الجديد.
كما قد تؤدي الهزيمة -أو حتى التعادل في أوكرانيا- إلى تأجيج نيران الانتقام الروسي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر مرة أخرى على انسجام الاتحاد الروسي المتعدد الجنسيات.
لكن، ماذا نعني عندما نتكلم عن «البلدان» في الاتحاد الروسي؟
يقدم الأدب الروسي الرسمي صورة مثيرة للحيرة. فمن جهة، يتحدث عن 120 «مجموعة عرقية» و100 لغة مختلفة. ومن جهة أخرى، يذكر أن الروس يشكلون 77 في المائة من مجموع السكان.
ومع ذلك، فإن عدد المجموعات العرقية البالغ 120 مجموعة هو من بقايا الوقت الذي كان فيه جوزيف ستالين هو «المفوض الشعبي للقوميات»، باحثاً عن «الأمم» و«الإثنيات» في كل ركن من أركان الإمبراطورية، ويخترع البعض منها أحياناً؛ إذ كان الهدف هو إدامة الزعم بأنه في بلد بمثل هذا التنوع القومي والعرقي، لا يمكن إلا للتضامن الطبقي -ديكتاتورية البروليتاريا- أن تجمع المواطنين معاً.
الأرقام التي تبين أن الإثنيات الروسية تمثّل أغلبية بنسبة 77 في المائة قد تكون مضللة لأنها تستند إلى دراسات استقصائية يُطلب فيها من الناس ذكر «لغتهم الأولى»، ومن ثم فإن الملايين من الروس غير المنتمين إلى عرقية بعينها، والذين تبنوا اللغة الروسية كلغتهم الأساسية، مشمولون بهذا الرقم.
وبدأت عملية تحويل الرعايا غير الروس إلى الجنسية الروسية تحت حكم القياصرة، ثم تكثفت خلال الحقبة السوفياتية. ولم يشكك أحد في الطبيعة الروسية للروائي نيكولاي غوغول، أو الشاعرة آنا أخماتوفا أو الشاعر أوسيب ماندلستام، ناهيكم عن الزعيم نيكيتا خروشوف أو أنستاس ميكويان، الرئيس الأسبق لمجلس السوفيات الأعلى.
ومع اختفاء ديكتاتورية البروليتاريا بوصفها رابطة آيديولوجية، كان يلتسين ثم بوتين يتطلعان إلى اللغة والثقافة الروسية في مواجهة الشوفينية الروسية العظمى التي روّجت لها شخصيات أمثال السياسي الراحل فلاديمير جيرينوفسكي، والتي كانت بمثابة الغراء المحافظ على تماسك الإمبراطورية السوفياتية البائدة.
قُرب نهاية الحقبة السوفياتية، نصح ألكسندر سولجينتسين -الكاتب الكبير الذي كان أيضاً من أتباع الشوفينية في روسيا- السلطات المقبلة في موسكو بالتخلي عن الأقليات والأعراق حتى يتسنى لروسيا الجديدة «النقية» استئناف مهمتها المقدسة بعيداً عن الأعباء الآسيوية الثقيلة.
وكتب سولجينتسين يقول: «إذا لم نُفلح في استيعابهم روسيّاً بعد مرور قرنين من الزمان، فلا أرى أننا سوف نُفلح في ذلك أبداً».
أما خصم بوتين الأكثر شهرة المعارض أليكسي نافالني، فنراه يعزف لحناً مماثلاً بتأكيد الهوية الأوروبية لروسيا.
أما يلتسين فقد نجح في تهدئة التوترات العرقية في إبرام عدد من المعاهدات مع أكبر الجمهوريات «المستقلة ذاتياً».
وكانت المعاهدات من ثلاثة أنواع؛ أهمها معاهدة 1994 مع جمهورية تتارستان، التي منحت الجمهورية القارية وضعاً قريباً من الاستقلال. وبموجبها، تملك حكومة قازان الحق في إقامة علاقات خارجية خاصة بها، وإنشاء مصرفها الوطني الخاص، ووضع قواعدها الخاصة للمواطنة. وقد استغل الرئيس آنذاك منتيمير شايمييف هذا البند الأخير لحرمان عدد كبير من التتار غير الإثنيين من التمتع بجنسية جمهوريته.
كما أُبرمت معاهدات مماثلة، وإنْ كانت مع نقل محدود للسلطة من موسكو، مع جمهورية باشكورتوستان، ثاني أكبر جمهورية ذات أغلبية مسلمة في الاتحاد الروسي بعد تتارستان، وجمهورية ساخا ياقوتيا في الشرق الأقصى. كما ألغى بوتين معاهدة مماثلة وُقعت مع الشيشان في عهد يلتسين، مما أشعل حرباً استمرت أكثر من عقد من الزمان.
أما النوع الثاني من المعاهدات، التي تتجنب القضايا السياسية وتركز على «التعاون الاقتصادي»، فقد عُرضت على عدد من الأقاليم (المقاطعات)، لا سيما كالينينغراد، وهي جيب يُطل على بحر البلطيق، وأورنبورغ، وسفيردلوفسك، وكراسنر كراي.
أما النوع الثالث من المعاهدات الموقعة مع جمهورية أوسيتيا الشمالية – ألانيا، وكذلك جمهورية قبردينو – بلقاريا، فقد ركزت بصورة شبه حصرية على القضايا الأمنية والعسكرية.
وتعرضت جميع هذه المعاهدات لضغوط لفترة من الزمن؛ إذ في تاتارستان، إبان عهد الرئيس رستم مينيخانوف، طالبت الجمهورية بتحسين تقاسم ثروة الاتحاد، وبمزيد من الاستقلال المالي في الخطاب السياسي. ومن المحتمل للتكاليف الهائلة للحرب الروسية – الأوكرانية أن تُسفر عن تضخيم مثل هذه المطالب. وفي مواضع أخرى، مثل داغستان وأنغوشيا، لم يعد من الممكن إسكات المطالبات بأدوار أكبر للثقافات والأديان واللغات المحلية. كما تواجه وصفة بوتين للغة الروسية وثقافتها -بوصفها الضامن للوحدة في الاتحاد الروسي- تحديات في شبه جزيرة القرم المنضمة حديثاً، على الأقل من التتار، وفي أوسيتيا الجنوبية كذلك من القوميات الإيرانية.
ورغم أن غير الروس يمثلون نسبة غير متناسبة من القوة القتالية في دونباس، فمن المشكوك فيه أن ترغب بلدان الأقلية بالاتحاد الروسي في البقاء مع الجانب المنهزم إذا خُسرت الحرب الأوكرانية.
هل يخلق ضم إقليم دونباس مصدراً جديداً للتوتر العرقي واللغوي في الاتحاد؟
تواجه روسيا مصدراً محتملاً آخر للتوتر العرقي، إثر وجود ما بين 3 و4 ملايين صيني ونحو مليون كوري شمالي من «العاملين المتعاقدين» -خصوصاً في سيبيريا والشرق الأقصى- والذين يشكل وجودهم أهمية اقتصادية بالغة، ولكنهم لا يحظون بشعبية سياسية بين المجموعات العرقية الأصلية.
ومن المتوقع لتراجع التركيبة السكانية في روسيا أن يتسارع مع الركود المحتمل في مرحلة ما بعد الحرب والتأثير الدائم للعقوبات، ويشكل بذاته تحدياً استراتيجياً لا يستطيع بوتين -على الرغم من تفاخره- أن يتجاهله.
وإذا كان النازيون -من قبل- قد شنوا حروبهم للاستيلاء على «مساحة المعيشة» (أو المجال الحيوي) لتعزيز الزخم السكاني، فقد اجتاح بوتين جورجيا، والآن أوكرانيا، بحثاً عن أقارب ومعارف حقيقيين أو متوهَّمين بُغية تعزيز مكانة روسيا بوصفها أمة ذات أغلبية في الاتحاد الروسي. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تأجيج نيران الشوفينية العرقية والوطنية بين 23 في المائة ممن يشكّلون الأقليات في الاتحاد.
كان حرياً بفلاديمير بوتين -وكما تقتضي الحكمة- أن يركّز على استراتيجيته في استخدام الثقافة الروسية وازدهار ما بعد العصر السوفياتي كوسيلة لتعزيز تماسك الاتحاد الروسي. لكنّ الشروع في عملية عسكرية لا تُقدم أي مكاسب واضحة ربما يكون قد أيقظ النزعة القومية والأممية المصغرة، التي أطلق عليها بنفسه اسم «المرض» من قبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى