الغلطة الثانية في سلسلة مقالاته (حسن البنا: الرجل القرآني) المنشورة في مجلة «الرسالة» في منتصف عام 1952، يروي أنور الجندي عن روبير جاكسون قوله في الحلقة السادسة من هذه السلسلة: «في فبراير (شباط) سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في (النيويورك كرونيكل) بالنص…».
لا نحتاج أن نبحث عن هذا النص في جريدة «النيويورك كرونيكل»، للتأكد من صحة ما نسبه أنور الجندي إلى هذا الاسم الأميركي المخترع، لأن هذه الجريدة صدرت في عام 1863. وتوقفت عن الصدور عام 1926. أي أنها توقفت عن الصدور قبل أن يؤسس حسن البنا جماعته، جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928، في الإسماعيلية.
الغلطة الثالثة، يقول الاسم الأميركي المخترع روبير جاكسون، الذي هو على وجه الحقيقة أنور الجندي: «في الأزقة الضيقة، في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجي… بدأ الرجل يعمل».
في هذه الحلقة وضع أنور الجندي الإشارة إلى الهامش فوق كلمة «الأزقة»، وفي نص الكتيب ونص الكتاب وضع الإشارة إلى الهامش فوق جملة «وبدأ يعمل»، وقال في الهامش: «لم يذكر الكاتب أن دعوة (الإخوان المسلمين) بدأت في الإسماعيلية».
السؤال: كيف عرف هذا الجاكسون الأميركي ميدان عمل حسن البنا في هذه الأزقة الضيقة في القاهرة، وجهل ميدان عمله الأول في الإسماعيلية، الذي كانت بداية مشهورة لعمله الدعوي؟!
إن أنور الجندي اصطنع ذلك الهامش لحبك كذبة اسمها روبير جاكسون، الذي لفق اسمه ولفق له سيرة هو كتبها عن حسن البنا تحت عنوان «حسن البنا: الرجل القرآني».
الغلطة الرابعة: وأنت تقرأ ما كتب تحت هذا العنوان، لا تشعر أنك أمام كاتب غربي مسيحي، وإنما تشعر أنك أمام درويش من دراويش حسن البنا. وهكذا كان أنور الجندي منذ أن اعتنق دعوة «الإخوان المسلمين» في مطلع شبابه. وهي الدروشة التي جعلته يلحق اسم إمامه الأخير باسمه الحقيقي. ففي كتابين أصدرهما في عام 1946، تسمى بأنور الجندي البنا!
تعرف أنور الجندي إلى العبارة المنسوبة إلى غلادستون من الطبعة الثالثة لترجمة عمر فروخ لكتاب «الإسلام على مفترق الطرق» التي صدرت عام 1951.
ومع أن معرفته بها كانت معرفة مستجدة، إلا أنه لم يتورع بأن يقحمها ويقحم إمامه ودعوته في نظرية التحدي والاستجابة لأرنولد توينبي، بطريقة سطحية ومشوهة وفجة، وذلك على لسان جاكسونه الأميركي المخترع.
فالعبارة المنسوبة إلى غلادستون كانت هي «التحدي» ومجيء حسن البنا ودعوته كان هو «الاستجابة» الطبيعية لهذا «التحدي»!
ويجب أن نوضح أن جمهور الخطاب الإسلامي لم يقرأها في الحلقات المشار إليها، وإنما قرأها بعضهم عنده في كتيبه الصادر في عام 1977، وفي كتابه الصادر في عام 1978. وفي المنتصف الأول من هذا العقد وفي منتصفه الأخير، كان بعض الكتاب الإسلاميين بدأوا يرددونها في كتبهم وفي أبحاثهم وفي محاضراتهم.
كما يجب أن نوضح أن رؤوس «الإخوان المسلمين»، حين نشر أنور الجندي سلسلة مقالاته عن حسن البنا في منتصف عام 1952، ونسبها إلى روبير جاكسون، يعلمون أن هذا الاسم اسم انتحله أنور الجندي. ويعلمون أنه لم يلتق بإمامهم حسن البنا شخصياً، لا صحافي ولا كاتب غربي ولا مستشرق سوى ج. هيوارث دنْ الذي عرفه وعرف سيد قطب عن كثب. وهو في الأصل جاسوس بريطاني حول خدماته الجاسوسية إلى أميركا.
لكنهم في الوقت نفسه يعلمون أن أنور الجندي يصدر عن عقيدة باطنية عندهم، وهي أن التلفيق والتزوير في سبيل تلميع الجماعة وإمامها وتشويه المخالفين لهم، فعل حكمه الشرعي الندب أو الاستحباب.
وهذه العقيدة ما زال العمل سارياً بها عند أجيالهم المتأخرة.
وسأعطي أكثر من مثال له صلة بموضوع حديثنا، وهو الاسم الأميركي المخترع: روبير جاكسون.
في موقع «ويكيبديا الإخوان المسلمين» هناك موضوع عنوانه: «الإمام حسن البنا في عيون الغرب». محتويات هذا الموضوع هي كالتالي:
1 – حسن البنا: الرجل القرآني، روبير جاكسون!
2 – الإمام البنا في عيون الغرب: وهو مقال من دون توقيع. وقد وضع فيه على رأس المحتفين من الغربيين والغربيات بحسن البنا، روبير جاكسون!
3 – حوار مهم للأستاذ حسن البنا مع مستر سبنسر، المراسل الحربي الأميركي: وقد كتبوا تحت هذا العنوان، ما يلي:
«قضى المستر سبنسر، المراسل الحربي الأميركي جلسة طويلة مع المرشد العام تحدث خلالها في كثير من الموضوعات التي تشغل الرأي العام العربي والإسلامي، وبعث به إلى صحف قومه، جاء فيه: …».
وبعد أن نشروا نص الحوار، أحالوا إلى مصدرين، للتثبت من صحة ما نشروه باللغة العربية، تصوروا ما هذان المصدران؟ هذان المصدران، هما:
– مجلة «الإخوان المسلمون» نصف الشهرية، العدد 87، السنة الرابعة، 22 صفر 1365، 26 يناير (كانون الثاني) 1946، ص (5 – 6)!
– مجلة «الإخوان المسلمون» نصف الشهرية، العدد 88. السنة الرابعة، 29 صفر 1365، 2 فبراير 1946، ص (7)!
في المعلومة الأولى التي قدمها الموقع عن اسم المراسل الحربي الأميركي، لا نعرف إن كان سبنسر اسمه الأول أم اسمه الأخير. وإن كان سبنسر اسمه الأخير، فهو ليس من الشهرة بحيث يحذفون اسمه الأول.
وفي المعلومة الثانية عن مكان نشر الحوار، كان عليهم أن يحددوا في أي من «صحف قومه» نشر الحوار.
وفي المعلومة الثالثة المتعلقة بالمصادر، نفهم أن الحوار نشر بالتزامن في عددين من مجلة «الإخوان المسلمون»، وفي عدد أو عددين من «صحف قومه»!
إن «الإخوان المسلمين» اختلسوا اسم هذا المراسل الحربي الأميركي المزعوم من أكاديمي أميركي في مجال الصحافة، له صلة بالقاهرة، تحديداً الجامعة الأميركية فيها، في المنتصف الأخير من ثلاثينات القرن الماضي، وفي المنتصف الأول من أربعيناته، هذا الأكاديمي الأميركي هو ماثيو لايل سبنسر.
ففي عام 1937، كان أستاذاً زائراً في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وأسس قسم الصحافة فيها، ورسم منهجها في أثناء الحرب العالمية الثانية. وعاد إلى القاهرة عامي 1945 و1946 لتقييم مناهج قسم الصحافة في الجامعة الأميركية.
هو حاصل على الدكتوراه من جامعة شيكاغو عام 1910. وقد التحق بالخدمة العسكرية في أثناء الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1918، أصبح كابتن في الاستخبارات العسكرية الأميركية.
وأخيراً، ماثيو لايل سبنسر الذي اختلس «الإخوان المسلمون» اسمه الأخير كان قساً وابن قس. ولد عام 1881. وتوفي عام 1969.
4 – حسن البنا أمل الشرق في صراعه مع المستعمر: تحت هذا العنوان كتب الموقع ما يلي: «كتبت جريدة (النيويورك بوست) في 13 فبراير سنة 1946، لمراسلها في القاهرة: زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح أبرز الرجال في التاريخ الحاضر، أو قد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه. هذا الرجل هو الشيخ حسن البنا زعيم (الإخوان المسلمين). وقد صار (الإخوان) عاملاً مهماً في السياسة المصرية. ويقول البنا: إن حركة (الإخوان) فوق الأحزاب وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء العالم. وهذا نص الحديث: …».
ولكي يتأكد القارئ أن هذا الحوار مع البنا، كما حوار مستر سبنسر معه، حوار ملفق ومزور، سأنقل له نص ما كتبه روبير جاكسون في فبراير عام 1946، في مجلة «النيويورك كرونيكل».
«زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم (الإخوان)، وقد صار (الإخوان) عاملاً مهماً في السياسة المصرية… ويقول الأستاذ البنا: إن حركة (الإخوان) فوق الأحزاب، وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء العالم».
إنني أسأل – بصرف النظر عن عملية التلفيق والتزوير هذه التي قاموا بها – : لماذا كانت الكتابة عن حسن البنا وإجراء حوارين معه في الصحف الأميركية، وليست في الصحف البريطانية. لأن الصحف الأخيرة، هي الأقرب، فمصر وقتذاك كانت تحت الحكم البريطاني؟
ولماذا كانت الكتابة عنه وإجراء حوارين معه في عام 1946؟ ولماذا كانت في شهر فبراير منه؟
فروبير جاكسون كتب عنه في شهر فبراير. ومراسل «النيويورك بوست» في القاهرة أجرى – أيضاً – حواراً معه في شهر فبراير. ومستر سبنسر نشر الجزء الثاني من حواره معه في «صحف قومه» في الشهر نفسه.
إجابة عن السؤالين الأولين، أقول: إن اختيارهم للصحف الأميركية مكاناً لتلفيقهم وتزويرهم، يعبر عن توجههم لأميركا وتوجه أميركا لهم في تلك الآونة، مع بداية اتصالهم السري بالسفارة الأميركية في القاهرة.