حين يصحو الشارع: كيف يتحوّل وعي السودانيين إلى سلاح يربك سلطات الحرب ويطالب بالعدالة
يشهد السودان منذ سنوات سلسلة من التحولات العاصفة التي وضعت المواطن السوداني في قلب معركة متشابكة بين طموحات الانتقال الديمقراطي وواقع الانتهاكات المتكررة التي دفعت المجتمع إلى البحث عن دور أكبر في تحديد مصيره. ومع تزايد حدة الصراع واتساع رقعة الانتهاكات ضد المدنيين، أصبح تعزيز الوعي الشعبي ضرورة مركزية، ليس فقط لفهم ما يحدث، بل للمشاركة الفاعلة في الضغط على السلطات—سواء كانت عسكرية أو مدنية—من أجل تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان. ويُظهر تتبع المشهد العام أن الوعي الشعبي لم يعد مجرد شعارات أو ردود فعل عاطفية، بل تطور إلى طاقة اجتماعية متماسكة تعتمد على التنظيم والمشاركة والمتابعة المستمرة.
لقد لعبت المنظمات المحلية غير الرسمية، مثل لجان المقاومة والمبادرات المجتمعية، دوراً محورياً في بناء هذا الوعي. فهذه المجموعات، رغم محدودية الموارد، استطاعت أن تكون مصدراً رئيسياً للمعلومات في وقت يتراجع فيه أداء المؤسسات الرسمية وتتناقص فيه الثقة بالإعلام التقليدي. وإلى جانب دورها في نقل الحقائق، بذلت جهوداً كبيرة في توثيق الانتهاكات، سواء كانت قصفاً عشوائياً، أو اعتقالات تعسفية، أو حالات اختفاء قسري. وسمحت هذه الجهود بجمع بيانات تشكل أساساً لأي مطالبة مستقبلية بالعدالة الانتقالية، وتوفّر منصة للمحاسبة أمام المحاكم الوطنية والدولية.
ومع تطور أدوات التواصل، أصبح المواطن السوداني قادراً على متابعة ما يجري في بلده لحظة بلحظة، خاصة في المناطق المنكوبة، وهو ما جعل الرواية الرسمية أقل قدرة على التحكم في المشهد. لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة للوعي الشعبي، حيث يتبادل المواطنون مقاطع الفيديو، والشهادات الحية، والتقارير الميدانية التي يقدمها الناجون والعاملون في المجال الإنساني. وعلى الرغم من انتشار الشائعات أحياناً، فإن هذا الفضاء الرقمي أسهم في خلق رقابة مجتمعية على الأداء السياسي والعسكري، ما أدى إلى انكشاف الكثير من الانتهاكات أمام الرأي العام.
لكن الوعي الشعبي لا يقتصر على نقل المعلومة، بل يشمل كذلك تحفيز المجتمع للسؤال والمحاسبة والدفاع عن الضحايا. فكلما ارتفع مستوى الإدراك الشعبي لطبيعة الانتهاكات وأثرها، ازدادت قدرة المجتمع على ممارسة الضغط. وهذا الضغط يتجلى في أشكال عدة، منها الحملات الشعبية، الوقفات الاحتجاجية، توقيع العرائض، التواصل مع المنظمات الدولية، وحتى نشر لوائح سوداء تضم المسؤولين عن الجرائم لفضحهم. وقد أثبتت التجارب أن ضغط الرأي العام يمكن أن يغيّر مسار الأحداث، خصوصاً حين يكون مستمراً ومنظماً.
على المستوى السياسي، أدركت بعض القوى أن تعزيز الوعي الشعبي يشكل تهديداً لنفوذها، فعملت على تشتيت المجتمع عبر الخطاب التحريضي أو صناعة روايات متناقضة للتمويه. وفي المقابل، سعت القوى المدنية إلى توحيد الجهود، مؤكدة أن الوعي الشعبي المستمر هو أساس الدولة الحديثة. ولهذا باتت الدعوة إلى التضامن المجتمعي قضية مركزية، خاصة مع تضرر ملايين المدنيين من الحرب وفقدانهم مقومات الاستقرار.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد أظهرت الأزمات أن المجتمع السوداني يمتلك قدرة كبيرة على التعاون الداخلي. فقد ظهرت مبادرات لتوفير الغذاء والدواء للنازحين، ومبادرات أخرى لرعاية الأطفال والنساء، ومجموعات تعمل على دعم الأسر التي فقدت معيلها. ويكشف هذا التضامن أن الوعي الشعبي لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يشمل أيضاً البعد الإنساني والأخلاقي الذي يمثّل جزءاً أصيلاً من الهوية السودانية.
ويساهم الوعي الشعبي كذلك في حماية الأدلة الحيوية التي قد تختفي بفعل الفوضى، لأن المتابعات الشعبية الدقيقة تحفظ الذاكرة الجمعية وتغلق الباب أمام الإفلات من العقاب. فالتوثيق الشعبي أصبح مصدراً لا غنى عنه، خصوصاً عندما تتداخل أطراف الصراع وتختلط الاتهامات، ما يجعل المجتمع شاهداً أساسياً على الوقائع.
وفي ظل غياب مؤسسات قوية قادرة على ضمان العدالة، يتحول الوعي الشعبي إلى وسيلة ضغط حقيقية لإجبار السلطات على التحقيق الجاد في الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، مهما كانت مواقعهم. كما يشكل هذا الوعي قاعدة لأي مشروع مستقبلي لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة.
إن تعزيز الوعي الشعبي في السودان ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وطنية لحماية المجتمع وإعادة الاعتبار للضحايا. وهو كذلك رسالة بأن الشعب السوداني، رغم ما يواجهه من حرب واضطرابات، لا يزال يملك القدرة على المشاركة في تقرير مصيره عبر متابعة الملفات الحساسة والتضامن والتوثيق والضغط. وإذا استمر هذا الوعي في النمو، فإنه سيشكل قوة اجتماعية لا يمكن لأي سلطة أن تتجاهلها، وقد يكون عاملاً حاسماً في وضع حد للانتهاكات وفتح الطريق نحو تحقيق العدالة وإنهاء دورة العنف التي أنهكت البلاد لسنوات طويلة.
