فساد مموَّه بالديمقراطية.. كيف تُهدر أموال الفقراء في الدعاية الانتخابية؟
تُشير تقديرات الخبراء والمراقبين إلى أن إجمالي الإنفاق على الحملات الانتخابية في العراق قد يلامس مستويات قياسية تصل إلى نحو 4 تريليونات دينار عراقي. هذه الأرقام تُعد فلكية وصادمة بالنظر إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي الذي يعيشه البلد، والمتمثل في ارتفاع مقلق في نسب البطالة والفقر. وتثير هذه المفارقة الصارخة تساؤلات جوهرية حول أولويات الطبقة السياسية، ومصادر هذه الأموال الطائلة، وتأثيرها على نزاهة العملية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
فقر وبطالة في بلد نفطي
على الرغم من كون العراق دولة نفطية غنية، إلا أنه يعيش تحديات اقتصادية هيكلية مزمنة أدت إلى انتشار واسع ومقلق للفقر، حيث تُؤكد تقارير دولية ومحلية أن النسبة تلامس مستويات مرتفعة جداً، حيث يعيش ملايين العراقيين تحت خط الفقر المدقع. ويزداد هذا الوضع قتامة وتعقيداً بسبب التضخم المستمر وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية العامة.
وتعاني فئة الشباب على وجه الخصوص من بطالة مزمنة وعالية، إذ تُساهم شحّ فرص العمل في القطاع الخاص والاعتماد شبه الكلي على التعيينات الحكومية في إبقاء هذه النسبة مرتفعة.
وتعاني غالبية المحافظات من تردٍّ كبير في مستوى الخدمات الأساسية كالكهرباء والرعاية الصحية والتعليم، ما يُضاعف من معاناة المواطنين اليومية.
خرق للقيود وضعف للرقابة
تضع مفوضية الانتخابات سقوفاً نظرية للإنفاق، 250 ديناراً لكل ناخب، لكن من الواضح أن الإنفاق الفعلي يتجاوز هذه القيود بأشواط هائلة، مما يُشير بوضوح إلى ضعف الرقابة وفشل آليات الحد من تضخم المال السياسي.
وقال الخبير الاقتصادي، منار العبيدي، في منشور على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” إنه “لا تتوفر بيانات دقيقة حول الحجم الفعلي للحملات الانتخابية في العراق، إلا أن تقديرات أولية تستند إلى عدد المرشحين وحجم الإعلانات التقليدية والرقمية تشير إلى أن إجمالي الإنفاق الانتخابي لا يمكن أن يقل عن 3 إلى 4 تريليونات دينار عراقي وفق نظرة متحفظة جدًا، وربما يتجاوز هذا الرقم بكثير في الواقع”.
وتابع العبيدي أن “المشهد المالي للحملات يبدو خارج السيطرة تماماً، ومع هذا الصخب الإعلامي والإنفاق الضخم، تغيب مؤشرات واضحة وموثوقة عن مصادر التمويل، وطرق الصرف، والجهات الممولة الحقيقية”.
فساد وعرقلة للديمقراطية
ويُغذّي هذا الإنفاق الضخم غالباً أموال غير معلنة ومصادر غير شفافة، يُعتقد على نطاق واسع أنها تنبع من الفساد المستشري واستغلال المال العام والفساد المتجذّر في مفاصل الدولة وتمويل مشبوه من قوى وأجندات إقليمية أو دولية.
وتؤكد تقارير متخصصة أن تكلفة الحصول على مقعد برلماني واحد قد تصل إلى 5 مليارات دينار أو أكثر، الأمر الذي يُكرّس سيطرة المال الفاسد على القرار السياسي والتشريعي.
”اغتيال” الفرص وتشويه الإرادة
وتخلق هذه المفارقة فجوة عميقة وخطيرة بين النخب السياسية والشارع العراقي المُتعب، وتُلقي بظلالها السلبية على مستقبل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ويؤدي الإنفاق الهائل إلى ترسيخ هيمنة الأحزاب والكتل الغنية والنافذة، ويمنع فعلياً فوز المرشحين المستقلين أو ذوي المشاريع الوطنية، مهما بلغت كفاءتهم، لعدم قدرتهم على المنافسة مالياً.
ويفتح المال السياسي الباب واسعاً أمام ممارسات غير ديمقراطية مثل شراء الأصوات (البطاقات الانتخابية)، وتضخيم الدعاية القائمة على الوعود الزائفة، ما يُشوه إرادة الناخبين الحقيقية.
دعوة للشفافية ومكافحة الفساد
وفي بلد ترتفع فيه معدلات الفقر إلى مستويات تحذيرية، يعكس هذا الإنفاق الباذخ ازدواجية صارخة في المعايير وانفصالاً كاملاً عن الواقع المعيشي، حيث يُصرف هذا المال على التنافس السياسي بدلاً من توجيهه نحو مشاريع تنموية أو خدمية مستدامة تخفف من معاناة المواطنين.
ويرى المحللون أن هذا التباين الأخلاقي والمالي يتطلب وقفة جادة ومحاسبة حقيقية من المؤسسات الرقابية والتشريعية لتعزيز الشفافية المطلقة في تمويل الحملات والتطبيق الصارم لقوانين الحملات والحد من نفوذ المال السياسي ومكافحة الفساد في الدولة الذي يُعد المصدر الرئيسي لهذا التمويل المشبوه.
ويشدد متابعون للشأن العراقي على ضرورة أن تركز المنافسة الانتخابية على البرامج والرؤى والخدمات، وليس على حجم الإنفاق المالي وقدرة الأحزاب على شراء النفوذ.
