ربّ مدينة تدعى بيرويه، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب، واقعة على البحر، فيها جزر جميلة، وأشجار ظليلة، ليست حدّ برزخٍ ضيق دقيق… بيرويه أصل الحياة، حاضنة المدائن». (الشاعر نونوس البانوبوليسي – القرن الخامس قبل الميلاد).
اكتحلت سماء بيروت بدخانٍ أسودٍ مبين، بحدث تفجير يشبه القيامات، والزلازل، والبراكين، يقترب من لحظات البدايات الأولى لكل شيء، والنهايات القصوى. حدث لا يتكرر دائماً. غروب شمس ذلك المساء لا يشبه سخاء الغروب في تلك المدينة الوادعة. رجفة زلزلت الأرض زلزالها، والصورة لا تقاربها خبرة سابقة إلا في السينما والأفلام والعريق من الأساطير. هزة نووية كارثية ارتطمت بكيان الإنسان هناك، بمعنى وجوده، بالبحث عن ظله، عن طريقه، بتلمس أشيائه، بمحاولة الهرب مما لا مفرّ منه، كأن الصحف طُويت، ولم يبقَ إلا الذهاب إلى نقطة الالتقاء في اللحظات الأخيرة، في اليوم الأخير.
البسطاء هم أنفسهم من عانى من غلبة الساسة، وجبروت القتلة، من قهر الفاقة، وشح القطر. يواجهون لحظة غير منتظرة، وحدثاً مجلجلاً بهذه الصورة فائقة التحدي، وعلى هذه الهيئة المجنونة. والصراخ نحو النجاة حيث لا نجاة، فالأرض هوت بها النار إلى مكان سحيق، وخرّ السقف من فوقهم، والجبابرة لا يأبهون لكل هذا. المشهد مروع، والحدث كبير، وله من الملامح ما يمكن من بعد انقشاع ظلمته درسه والتأمل به.
عبّرت الدول كلها عن التضامن التام مع الشعب اللبناني، ومع الأرض اللبنانية، والمدينة اللبنانية. في مثل هذه الأحداث لا بد من تنقية أسماء الناس عن الساسة الطواغيت، اللائذ بابنه تحت طاولة خوفاً عليه من الشظية هو أخ لك في الإنسانية، أما الجبابرة السُّرّاق، والقَتَلَة البغاة، والميليشيويون العتاة، فإنما هم الحتف، وهم الموت، وهم الشر على هيئة إنسان، لذا كان لزاماً التفريق بين المظلوم والظالم، بين المسجون والسجان، بين وجه الشر المحض والإنسان.
وما كان لدول الخير موقف أبداً ضد لبنان، ولا تعاملت بصيغة كما تدين تدان، وإنما أرادت كفّ شر ساسته وأذاهم، وحماية أعينها من قذاهم، والانشغال بداخل بلدانها ومشاريعها، والابتعاد عن سوء تدبير بعض الساسة هناك وأراجيفهم وعتههم وجنونهم وهبلهم وفسادهم وإرهابهم. بل حين رأته يوشك أن يغرق طوال السنين رمت بين يديه طوق النجاة، وحين مشى نحوهم لبنان خطوة، مشوا إليه ذراعاً، غير أن حظوظ نفوس أولئك القوم تحكمت بعقولهم، وطغت نشوة صلاحياتهم على مصالح شعبهم، اختاروا مشاريع الشر، ودول الشر، وآيديولوجيات وأفكار الشر، فغرقوا في فشلٍ ذريع، وساروا بالدولة إلى انهيار مريع.
وإذا كانت وظيفة كل دولة أن تحافظ على المؤسسات، فإن الساسة هناك وظيفتهم الوحيدة إطلاق النار بمسدس الدولة على الدولة فهم عناصر هدم لها.
والتفجير الذي حدث في مرفأ بيروت عملية نسف للدولة، تراها وقد ذهبت شظايا وأشلاء متناثرة، إنها رمزية بصرية هائلة أرادوها منذ سنين. لم ينسف أحد، حتى أعداء لبنان التاريخيون، مؤسسات الدولة كما فعل ويفعل رجالاتها.
إنه موضوع شعورٍ بالغبن والألم أن يرى اللبنانيون ما يحل بهم من دون قدرة على التدخل أو الإصلاح، لقد ترعرع الشر في كل مفاصل الدولة، فكيف يمكن تفكيك أثره، أو نزع فتائله؟!
«حزب الله»، الميليشيا النافذة، الممسكة بتلابيب الدولة، والمختطفة لقرار السلم والحرب، لا يعنيها هذا الحادث، وآية ذلك أنها المسؤولة عن موقعه. أخذوا الدولة بقوة السلاح، كل الدولة، حتى لا يكاد سياسي يحيد ولو قليلاً عن الصراط. أدخل لبنان معه في حروب لا تعبِّر عن جوهر لبنان ولا تاريخه ولا قيمه؛ ما دخلُ لبنان بالبحرين، باليمن، بالعراق، بسوريا، بصراعات أفريقيا؟! ما دخلُ لبنان بالحروب، كل الحروب، وهو المؤسِّس لصروح الهيئات الأممية، والجامعات الدولية، إنه بلد مدني علماني بامتياز، كيف تمكن الخاطفون من اقتياده بقضه وقضيضه إلى هذه المشاريع، وخزّنوا في أرضه السلاح حتى انفجر على الناس الأبرياء؟!
إن وقوف السعودية المحقّ مع الناس في لبنان لهي رسالة أن هذه الأرض لا تكنّ للبنانيين، كما لكل العرب والبشرية، إلا الخير والأمنيات الطيبة، فهي دولة سلام وعطاء، وليست دولة كراهية واعتداء، وإنما الشرر جاء من الطرف الآخر، بلسان طاغية لبنان المنفلت حول السعوديين وحكامهم، وتحالفه مع قوى الشر في كل مكان في جميع أنحاء العالم، ومع كل تصرفات ذلك الطاغية الشرير، غير أن السعودية ومعها دول أخرى فرّقت بين السياسيين وبين الناس، فهؤلاء منّا ومن ناسنا ومن عربنا وتدفعنا نحوهم أصولنا وقيمنا، فهل لدى الأشرار قيم غير تخزين السلاح بين أحياء المدنيين؟!
وأخيراً، للجغرافي أوليزيه روكلو مقولة عن بيروت ينقلها عنه سمير قصير: «قدرُ هذه المدينة أن تعيش وأن تعود إلى الحياة مهما كان، يمر الغزاة وتُبعث المدينة بعدهم».
نقلا عن الشرق الأوسط