أوروبا

من الخلافات الدبلوماسية إلى الأزمة المفتوحة.. العلاقات الجزائرية–الفرنسية في مأزق


في تطور جديد يعكس التدهور المتسارع في العلاقات الفرنسية-الجزائرية، أعلنت السفارة الفرنسية في الجزائر عن تقليص عدد موظفيها الدبلوماسيين بنسبة الثلث، بدءًا من الأول من سبتمبر/أيلول المقبل، وذلك بسبب رفض السلطات الجزائرية منح تصاريح اعتماد لعدد كبير من الموظفين الجدد.

وفي بيان رسمي نُشر على منصة “إكس”، أوضحت السفارة أن وزارة الخارجية الجزائرية لم تستجب لمعظم طلبات التأشيرات الدبلوماسية التي قدمتها باريس هذا العام، مما دفع فرنسا إلى تقليص طاقم عمل سفاراتها وقنصلياتها، ولا سيما في وهران وعنابة، حيث ستُقدم الخدمات القنصلية بكادر محدود، ما سينعكس سلبًا على معالجة طلبات التأشيرات وعدد المواعيد المتاحة.

رد جزائري حازم واتهامات متبادلة

ولم تتأخر الجزائر من جهتها، في الرد، حيث استدعت القائم بالأعمال الفرنسي واعتبرت البيان الصادر عن السفارة الفرنسية “انتهاكًا خطيرا للأعراف الدبلوماسية”. كما اتهمت وزارة الخارجية الجزائرية باريس بـ”تحوير الوقائع” ومحاولة تحميل الجزائر كامل المسؤولية، مشيرة إلى أن رفض اعتماد دبلوماسيين فرنسيين جاء في إطار المعاملة بالمثل، ردا على إجراءات فرنسية مماثلة.

جذور الأزمة

والتوتر بين باريس والجزائر ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمي لعدة أزمات سياسية ودبلوماسية تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة. وأحد أبرز فصولها بدأ مطلع أغسطس/اب الجاري، حين علّقت فرنسا العمل باتفاقية عام 2013 التي كانت تُعفي حاملي الجوازات الدبلوماسية والخدمة الجزائريين من التأشيرات. وهو ما اعتبرته الجزائر خرقًا لاتفاق ملزم، وتتحرك الآن لإلغائه رسميًا من جانب واحد.

وتعود الأزمة أيضا إلى مواقف باريس الأخيرة إزاء ملف الصحراء المغربية، بعد دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لخطة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية حلا وحيدا وواقعيا للنزاع المفتعل، وهو ما أثار غضب الجزائر، التي تعتبر هذا الملف مسألة جوهرية في سياستها الخارجية. وسرعان ما ردت بسحب سفيرها من باريس، تبعها تصعيد متبادل شمل التضييق على تحركات الدبلوماسيين، وتقييد الإجراءات في المطارات، وتبادل الاتهامات حول ملف الهجرة.

أعمق من أزمة التأشيرات

ورغم أن ملف التأشيرات يبدو نقطة الخلاف المعلنة، إلا أن المراقبين يرون أن المسألة أعمق بكثير من مجرد إجراءات إدارية، إذ أصبحت التأشيرات وسيلة ضغط سياسي ودبلوماسي بين الطرفين، ففرنسا تخشى من تزايد النفوذ الجزائري في أوساط الجاليات والمهاجرين، بينما ترى الجزائر أن باريس تتعامل معها بعقلية ما بعد استعمارية، لا تراعي التحولات الاستراتيجية في المنطقة ولا تحترم السيادة الوطنية.

الانعكاسات والمآلات: ماذا بعد؟

وفي ظل غياب مؤشرات واضحة على التهدئة، تُنذر هذه الأزمة بمزيد من التوتر في العلاقات الثنائية، خصوصًا مع تعطيل متوقع للخدمات القنصلية، ما سيؤثر بشكل مباشر على آلاف المواطنين الجزائريين الذين يرغبون في السفر إلى فرنسا سواء للدراسة أو العمل أو زيارة عائلية.

سياسيًا، قد تكون هذه الأزمة مقدمة لمراجعة شاملة للعلاقات بين البلدين، لا سيما إذا استمرت باريس في نهجها الحالي، الذي تعتبره الجزائر متناقضًا بين الخطاب الدبلوماسي والتصرفات الفعلية.

وفي المقابل، تسعى الجزائر في السنوات الأخيرة إلى تنويع شراكاتها الدولية والتقليل من الاعتماد على فرنسا في الملفات الاستراتيجية، وهو ما قد يسرّع إعادة تشكيل العلاقة على أسس جديدة، أو الذهاب نحو قطيعة مؤقتة تُشبه ما حدث في مراحل سابقة.

صراع رمزي بثقل تاريخي

وتُجسّد الأزمة الأخيرة بين فرنسا والجزائر أزمة هوية وعلاقات تاريخية معقدة أكثر منها خلافًا تقنيًا، فهي أزمة دولة تسعى إلى فرض استقلالها السياسي الكامل عن إرث استعماري ثقيل، وأخرى لم تُحسن بعد التعامل مع شركائها السابقين على قدم المساواة. وبين هذه الثنائية، يبقى المواطن العادي الحلقة الأضعف، بينما تستمر الأزمات المؤجلة في رسم ملامح علاقة قد تحتاج إلى مصارحة استراتيجية بدلًا من المواقف الانفعالية المتبادلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى