الشرق الأوسط

من العشوائيات إلى السيطرة: واقع البؤر الاستيطانية


على قمم تلال الضفة الغربية، لم تعد البؤر الاستيطانية مجرد كتل من المساكن الجاهزة، بل باتت رأس حربة في استراتيجية إسرائيلية ممنهجة لإعادة رسم خارطة الأرض ونسف حلم الدولة الفلسطينية.

من بؤرة ‘أور مئير’ الصغيرة، ينطلق مشهدٌ يتداخل فيه عنف المستوطنين اليومي مع الدعم الحكومي الرسمي، حيث تتحول هذه النقاط العشوائية بمرور الوقت إلى مستوطنات مترامية الأطراف. وبينما توثق المنظمات الدولية عاماً هو الأكثر دموية وعنفاً، يجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة ‘نمط منهجي’ يطصاد أراضيهم بالترهيب والقانون، ليحول قرى بأكملها إلى سجون معزولة تحت وطأة التوسع الذي لا يتوقف.

وتُعد “أور مئير”، التي تضم عدداً محدوداً من المساكن البيضاء الجاهزة، نموذجاً مصغراً للتوسع الإسرائيلي، إذ تقع في نهاية مسار ترابي صاعد من الطريق (60)، الشريان الرئيسي الذي يقطع قلب الضفة الغربية المحتلة. ومع مرور الوقت، تتحول هذه الوحدات المتواضعة إلى مشاريع إسكانية كبرى، ضمن خطة يقر أعضاء في الحكومة الإسرائيلية بأن هدفها النهائي هو منع إقامة دولة فلسطينية.

وغالباً ما يترافق هذا التوسع مع تصاعد حدة العنف، فقد روت عائلة بدوية لـ”رويترز” كيف شنَّ مهاجمون انطلقوا من “أور مئير” هجوماً بالزجاجات الحارقة، مما أجبرهم على مغادرة أرضهم العام الماضي، وسط مخاوف حقيقية من ضياعها للأبد.

وفي الوقت ذاته، تنشر قناة “أور مئير” على “تيليغرام” رسائل تحتفي بطرد الرعاة، وتؤكد إصرار المستوطنين على فرض سيطرة دائمة على ما يصفونها بأراضٍ “استراتيجية”.

وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن العام الحالي هو من بين الأكثر عنفاً على الإطلاق، حيث سُجلت أكثر من 750 إصابة نتيجة هجمات المستوطنين. ومن جهتها، رصدت منظمة “السلام الآن” بناء 80 بؤرة استيطانية في عام 2025، وهو العدد الأكبر منذ بدء التوثيق عام 1991. وفي تحرك رسمي داعم، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي في 21 ديسمبر/كانون الأول على شرعنة 19 مستوطنة جديدة، وهو ما برره وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بضرورة “عرقلة قيام دولة فلسطينية”.

ودأب المستوطنون على إقامة تجمعات دون تفويض رسمي، ورغم أن السلطات تهدم بعضها أحياناً، إلا أنها سرعان ما تعود للظهور لتنتهي غالباً باعتراف رسمي بها. ورغم أن القانون الدولي يعتبر هذه الأنشطة غير قانونية، إلا أن حسابات المستوطنين تتباهى بطرد “البؤر العربية” واستعادة آلاف الدونمات لصالح “اليد اليهودية”.

ورغم تنصل بعض المسؤولين الإسرائيليين ووصف المهاجمين بـ”أقلية هامشية”، إلا أن فحص رويترز لعشرات الرسائل في مجموعات “تيليغرام” و”واتساب” كشف عن خطة منظمة جيداً للسيطرة على الأرض. وصفت ميلينا أنصاري، باحثة “هيومن رايتس ووتش”، هذه الأفعال بأنها “نمط منهجي من العنف”.

يروي شحادة مصابح (39 عاماً) مأساة عائلته قائلاً “كنا نعيش بأمان الله، فنزل علينا المستوطنون وحرقوا وكسروا كل شيء.. لم يتركوا لنا شيئاً”. ورغم اعتراف الجيش الإسرائيلي بوقوع الحادثة، إلا أنه أكد مغادرة المشتبه بهم قبل وصول القوات، وهي مفارقة تتسق مع بيانات منظمة “ييش دين” التي تشير إلى أن 2 بالمئة فقط من قضايا عنف المستوطنين تنتهي بتوجيه اتهامات.

وتسعى بؤر مثل “أور مئير” و”أفيتار” إلى خلق تواصل استيطاني يقطع أوصال الضفة. ويقول الناشط درور إتكيس إن هذه البؤر تهدف بوضوح إلى “الحد من الوجود الفلسطيني”. فبؤرة “أفيتار” التي بدأت بخيام عام 2019 وحصلت على اعتراف رسمي في 2024، تهدف للسيطرة على الطريق (505) المؤدي لغور الأردن، بذريعة حمايته من “القرى المعادية”.

وفي خضم هذا الصراع، يبقى المزارعون الفلسطينيون، مثل سامر يونس الذي أصيب بكسر في ساقه، متمسكين بأرضهم رغم كل العواقب، متسائلين بمرارة “هذا مكاننا. إلى أين نذهب؟”، بينما تلوح في الأفق بؤرة استيطانية جديدة تبتلع أشجار الزيتون شيئاً فشيئاً.

زر الذهاب إلى الأعلى