ميزان العلاقة بين روسيا وأمريكا
بعد وصول ميخائيل جورباتشوف إلى سدة الحكم في الاتحاد السوفييتي بدأ في تطبيق سياسة “البيريسترويكا”، والتي تعني إعادة الهيكلة.
ثم أضاف إليها سياسة “غلاسنوست”، والتي تعني الشفافية، ومن هنا بدأت القبضة الحديدية للحزب الشيوعي السوفييتي تتراخى، ومعها سقطت شعارات “العداء للغرب الإمبريالي الرأسمالي”.
في هذا السياق، جاء أول قرار يسمح للمؤسسات الرأسمالية الغربية بالوجود في عاصمة الاتحاد السوفييتي، موسكو، في عام 1988، وذلك حين وافق الحزب الشيوعي السوفييتي على الترخيص لشركة ماكدونالدز الأمريكية للوجبات السريعة بأن تفتح مطاعم لها في أراضي الاتحاد السوفييتي.
وبعد ذلك بعامين، وفي فجر يوم 31 يناير 1990 وقف 5000 مواطن سوفييتي أمام الفرع الأول لماكدونالدز في ميدان بوشكينسكايا في موسكو لأكثر من 10 ساعات للحصول على وجبة، وفي هذا اليوم دخل المطعم نحو 30000 مواطن لتذوق طعم الرأسمالية، والتمتع بأول ثمار العولمة.
لقد حفظ التاريخ الحديث لنا أن أهم مؤشرات سقوط الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر 1991 كانت وقوف المواطنين في موسكو قبل ذلك بأقل من عام ليوم كامل من أجل “ساندويتش أمريكي”، وكان هذا المشهد السريالي، مع مشروب مياه غازية وبنطلون “جينز”، أهم وسائل الولايات المتحدة لتُظهر للعالم فشل النظرية والتطبيق في الدولة الاشتراكية الأولى في التاريخ، وقد مثل هذا المشهد نهاية العالم ثنائي القطب، والدخول إلى العالم أحادي القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وكان العامل الرئيسي لهذا التحول هو الاقتصاد، فقد قادت حرب أفغانستان إلى انهيارات اقتصادية في الاتحاد السوفييتي دفعت قيادته إلى تفكيكه، والقضاء عليه بصورة إرادية رغم قوته العسكرية، ورغم نفوذه السياسي العالمي.
وفي 8 مارس 2022 يعود ماكدونالدز نفسه للمشهد مرة أخرى، حيث تقرر الشركة إغلاق 850 فرعا لها في عموم روسيا الاتحادية، في موقف يعكس العجز الأمريكي والغربي عن مواجهة روسيا عسكريا في النزاع الروسي-الأوكراني، والذي اندلع في 24 فبراير 2022، فتم اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية.
ولكن هذا المشهد بدوره يؤرخ لنهاية العالم أحادي القطبية، والدخول إلى عالم متعدد الأقطاب سوف تصنعه القدرات الاقتصادية، كما سوف يتضح في السياق الآتي.
هذه العلاقة الجدلية بين القدرات الثلاث للدول، الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تحددها ظروف الزمان والمكان، ولكن هناك خط ثابت فيها، وهو أن القدرات الاقتصادية عادة تكون هي العنصر الحاسم الذي يحدد مدى فعالية كل من القدرات العسكرية والسياسية، فعلى سبيل المثال لم تمنح القدرات العسكرية الهائلة كوريا الشمالية وضعا يعكس حجم هذه القوة العسكرية بسبب ضعف القدرات الاقتصادية وتراجعها، ولم تستطع فرنسا رغم نفوذها السياسي الكبير أن تناطح الولايات المتحدة بسبب الفارق الهائل في القدرات الاقتصادية.
والحقيقة أننا في عالم اليوم نشهد تحولا كبيرا في بنية النظام الدولي سيقود إلى نهاية حالة القطبية الواحدة، التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاما، وذلك بفضل التحولات الكبرى في موازين القوى الاقتصادية في عالم اليوم.
ففي 18 فبراير 2017 وقف سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، مخاطباً قادة العالم الغربي في الاجتماع الثالث والخمسين لمؤتمر الأمن العالمي المنعقد في ميونخ بألمانيا قائلاً: “آمل أن القادة الذين يشعرون بتحمل المسؤولية سوف يسعون لإنشاء نظام دولي عادل، وهذا النظام العادل لا بد أن يكون نظام ما بعد العالم الغربي post-west world order”.
وهنا سيذكر التاريخ أن مطعم ماكدونالدز كان الشاهد الأول أو العامل الأول على تسجيل نهاية الاتحاد السوفييتي، ونهاية عالم القطبية الثنائية والحرب الباردة، وسيذكر كذلك أن خروجه من روسيا، ومسارعة الدولة الروسية إلى أن يحل محله مطعم روسي يحمل اسما مشابها في الحرف الأول، ولكنه مختلف في اللغة، مطعم “العم فانيا”، الذي دعم تأسيسه مجلس الدوما الروسي -البرلمان الاتحادي للدولة الروسية- إشارة خطيرة إلى خلع زي الأمركة والعولمة ذات النسخة الواحدة، والسير في طريق التميز والاستقلال عن الهيمنة الغربية على العالم.
إنه عالم الرموز السياسية العميق والخطير، والذي قد لا يلتفت إليه كثير من المراقبين، ولكن في الحقيقة فإن هذا العالم هو الأقدر على فهم الأحداث والتنبؤ بها.