أن تستقبل موسكو رئيس الحكومة اللبناني المكلف، سعد الحريري، بعد استقبال وفد من حزب الله وقبل استقبال رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، فإن ذلك يعني أن روسيا باتت مقصداً لساسة لبنان، وقد تصبح مرجعاً دوليا أساسيا، وربما وحيدا في المستقبل.
وأن يتوجه الحريري إلى العاصمة الروسية في وقت يزور فيه مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل بيروت، فتلك صدفة قد تؤسس لواقع تقدم النفوذ الروسي في لبنان على حساب، والأرجح بموافقة، العواصم الأخرى في العالم.
وفيما جرى جدل حول طبيعة التواصل الذي يجري بين موسكو وحزب الله دون المرور بطهران، فإن شكل هذا التواصل، حتى لو أنه يتم حكما من جهة الحزب بموافقة القيادة الإيرانية وإشرافها، يكشف عن عزم روسي على الانخراط مباشرة في الشأن اللبناني (بإشراف المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، العارف المحنك بشؤون لبنان)، والتعامل مع حزب الله بصفته مكونا لبنانيا، أساسيا، لكنه واحد من المكونات اللبنانية الأخرى التي تتواصل معها روسيا.
والحال أن الحيوية الروسية في لبنان تنهل منطقها من تعاظم نفوذ موسكو في سوريا. ولئن تتوزع قوى عسكرية تابعة لتركيا وإيران والولايات المتحدة فوق الأراضي السورية، إلا أن كل تلك الدول، إضافة لإسرائيل، تسلم بالدور الروسي وديمومة مستقبله في هذا البلد. وعليه فإن “الوكالة” التي حصل عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2015 من الدول المعنية بالمسألة السورية (خصوصا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإيران) لمقاربة الصراع في هذا البلد، تستدرج تمدد حصرية الوكالة صوب لبنان.
تملك موسكو مفاتيح أساسية لفك عقد الأزمات في لبنان. ما زالت روسيا حليفا معلنا لإيران وتتمتع بعلاقات مريحة (على الرغم الاحتكاكات في الملف السوري) مع طهران لا تملكها الدوائر العربية والدولية. وما زالت إيران تحتاج لمتانة علاقاتها مع روسيا، طالما أن علاقاتها الغربية متوترة، وستبقى كذلك إلى حين، حتى لو تمت تسوية ملف الاتفاق النووي.
لا تسقط طهران أن موسكو تدخلت عسكريا لإنقاذ النظام في سوريا، وبالتالي نفوذها هناك، بعد زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني (أكد أمرها مؤخراً زعيم حزب الله في لبنان)، أطلع خلالها القيادة الروسية على حالة الانهيار التي تعرضت لها دفاعات نظام دمشق. ولا تسقط طهران من حساباتها السورية واللبنانية أن الثقل الروسي بات مفصليا، لا تعارضه القوى الدولية الكبرى، على نحو لا يمكن لطهران تجاوزه كما التصادم معه، سواء في سوريا أو في ذلك الذي تأمله موسكو في لبنان.
بدا أن إطلالة روسيا على لبنان باتت ضرورة دولية يؤكدها فشل الوساطة الفرنسية وعجز المجتمع الدولي عن التأثير على الديناميات السياسية المحلية في البلد.
بدا أيضا أن انخراط موسكو في الشأن اللبناني بات متسقا متكاملا مع الدور الذي تلعبه وستستمر في لعبه في سوريا.
وبدا أيضا وأيضا أن مخاطر الانهيار الكبير في لبنان بدأ يقلق المحيط. أوروبا مهجوسة باحتمالات أن يتسبب الأمر بتسونامي جديد من اللاجئين السوريين والفلسطينيين واللبنانيين. وإسرائيل تتخوف من أن يفجر الانهيار مواجهة عسكرية عبثية كبرى مع حزب الله. وروسيا نفسها قلقة من تأثير الفوضى اللبنانية على ورشتها الكبرى في سوريا، والتي تسعى موسكو لتسويقها لدى العواصم الكبرى.
تود روسيا من خلال لبنان أيضا تأكيد إطلالتها على البحر المتوسط، وتثبت شراكاتها في التأثير على مستقبل التنقيب على الطاقة في مياهه وشبكات تسويقها وتوزيعها.
ولئن تنشط روسيا داخل ميدان التنقيب وإدارة المنشآت النفطية في جنوب لبنان (بلوك 4 البحري) وشماله (طرابلس)، وتطل شركاتها من خلال عقود مع دمشق للتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة مقابل ساحل محافظة طرطوس المتداخلة والمتنازع عليها مع لبنان، فإن روسيا تجد نفسها طرفا مقبولا من قبل سوريا وإسرائيل، كما من قبل كافة الأطراف اللبنانية، للعب دور يحظى بثقة قد لا تحظى بها عواصم إقليمية ودولية وأخرى.
والواضح أن المقاربة الروسية تنساب داخل الزواريب اللبنانية متجنبة القيام بأي اندفاعات غير محسوبة. تدرك موسكو أن ليس لها “جماعتها” في لبنان وأنها تتعامل مع “جماعات” الآخرين. تبدو روسيا مستفيدة من فراغات دولية موضوعية، وأخرى مقصودة، تستدرجها وتشجعها للعب دور لضبط البلد وإعادة عقاربه للعمل وفق توقيتات ما يُعد للمنطقة في صراعات برِّها وخيرات بحرها.
سمع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء جولته الخليجية الأخيرة عناوين محددة وواضحة في ما يتعلق بسوريا ولبنان. عاد الرجل قبل أيام من طهران والقاهرة وهو على تماس يومي مع عواصم القرار الكبرى لاستنتاج الممكن والمتاح في ورشة روسيا اللبنانية. ومن راقب “الانزال” المتعجل لديفيد هيل في لبنان يلحظ بسهولة أن رسائل واشنطن اللبنانية لن تعارض مساعي موسكو، وربما ستشجعها وتتعايش معها طالما أنها لا تتجاوز خطوط ما هو مشترك ومقبول. ومن راقب همّة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنزع فتيل الصراع في أوكرانيا وتفعيل الحوار مع موسكو قد يستنتج أيضا تكاملا لا تنافسا في مبادرات البلدين في لبنان.
ربما لم يسمع الحريري ووفد حزب الله كلاماً مريحاً في موسكو، والأكيد أن باسيل لن يجد الترياق الذي يتمناه هناك. غير أن العاصمة الروسية تبدو بالنسبة لساسة لبنان محجّا متاحا، وربما وحيدا هذه الأيام، لفك شيفرة العقد في هذا البلد. فإذا ما فتحت موسكو أبوابها لباسيل، فذلك أن كل الأبواب قد أوصدت في وجهه. وإذا ما استقبلت الحريري وقبله وفد حزب الله، فذلك أن امتدادات الطرفين الإقليمية والدولية باتت عاجزة مشلولة عن توفير عوامل التقدم لتسييل الانسدادات التاريخية غير المسبوقة لبلد بدأ العد العكسي لانهياره الشامل، وربما اختفائه وفق النبوءة السوداء لإيف لودريان وزير خارجية باريس. هنا فقط تجد روسيا فرصتها اللبنانية.