أعلن مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة يوم 13 أبريل أن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع إلى 2.6% على أساس سنوي في شهر مارس الماضي.
وهو ما يرتفع بشكل ملحوظ عن هدف التضخم لدى نظام الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) البالغ 2%.
ويرى ثلاثة من الباحثين من معهد روزفلت هم مايك كونسزال، وجيه.دبليو ماسون، ولورين ميلوديا في دراسة لهم تحت عنوان “وهم التضخم: لماذا سوف تبدو أرقام الربيع عالية بشكل مصطنع؟” أن ما سيبدو كأرقام مرتفعة للتضخم خلال الشهور القليلة المقبلة ليس سوى مجرد وهم خادع.
ويبين الباحثون في مطلع دراستهم أنه حينما تخرج أرقام التضخم في 13 أبريل، فمن المحتمل أن تبدو شديدة الارتفاع. ومقاسا سنويا، سيبدو التضخم وكأنه يرتفع أكثر فأكثر خلال الشهور القليلة المقبلة، وهذه الأرقام سوف تستخدم للمجادلة ضد خطة التوظف الأمريكية وضد استثمارات البنية التحتية، بل حتى للدعوة إلى التقشف.
ولكن هذا النوع من رد الفعل سوف يكون خاطئا لثلاثة أسباب:
1. إن التضخم المرتفع خلال الشهور المقبلة سوف يعكس الانخفاض في الأسعار منذ عام مضى، وبغض النظر عما إذا كانت الأسعار ترتفع بشكل أكثر سرعة اليوم.
2. إن تحقق أهداف نظام الاحتياط الفيدرالي في استقرار الأسعار تتطلب فترة من التضخم أعلى من الاتجاه العام، فلو أن التضخم مقاسا بشكل صحيح، ارتفع بشكل معتدل خلال الشهور القليلة المقبلة، فإن هذا يعد شيئا جيدا.
3. حتى لو أن التضخم كان مشكلة حقيقية فإن التراجع عن استثمارات البنية التحتية ليس هو الحل، بل إنه ربما يجعل حتى المشكلة أكثر سوءًا.
خلال العام المنتهي في فبراير كان معدل التضخم 1.7%، فلو لم يكن هناك ارتفاعات في الأسعار خلال الأشهر المقبلة -أي إذا ظلت الأسعار على ما هي عليه الآن بالضبط- فما الذي سيحدث لمعدل التضخم؟ الإجابة هي: سوف يرتفع إلى 2% في شهر مارس، و2.7% في شهر أبريل و2.8% في مايو.
ولكن كيف؟ فالتضخم هو التغير في المستوى العام للأسعار، ولذا لو لم يتغير مستوى السعر، فكيف يمكن للتضخم أن يرتفع؟
السبب فيما يبدو وكأنه لغز هو أن التضخم يتم الإبلاغ عنه على شكل التغير عن العام الماضي، وهذا يعني أن معدل التضخم المقاس يعتمد ليس فقط على ما تفعله الأسعار حاليا ولكن ما كانت تفعله منذ عام مضى.. ومعظم الوقت؛ لأن الوضع الاقتصادي يتغير بشكل سلس وتدريجي، فهذا لا يجعل هناك الكثير من الاختلاف، ولكن التغيرات منذ عام مضى، كما نتذكر جميعا، لم تكن أي شيء سوى كونها بطيئة وتدريجية.
وهذا الانخفاض في الأسعار منذ عام مضى يعني أن الأساس الذي تقاس عليه معدلات التضخم السنوي التي يتم حسابها الآن هو أقل، وهو السبب في أن التضخم السنوي سيظهر على أنه مرتفع بشكل حاد خلال الأشهر المقبلة، حتى لو كان معدل التضخم الآن بقي بدون تغيير أو حتى لو انخفض.
وبدءا من 13 أبريل يوم إعلان إحصائيات التضخم عن شهر مارس، وعلى مدار الأشهر القليلة المقبلة فإنه في الواقع سيكون هناك خداع بصري سوف يحرف أرقام التضخم كما يتم الإبلاغ عنها، ولذا فمن المحتمل أن ينقض سريعا معارضو زيادة الإنفاق العام ويقولون إنه ينبغي عدم زيادة الإنفاق لأن معدلات التضخم مرتفعة.
وأي شخص يريد تقديرا موضوعيا للواقع الاقتصادي، سواء في الإبلاغ عن البيانات أو في المحادثات حول السياسة الاقتصادية، عليه أن يصحح مثل هذا الانحراف، فلو أن ما يبدو كارتفاع ضخم في التضخم على أساس سنوي تم فهمه بشكل خاطئ كدليل على ارتفاع الأسعار اليوم بدلا من أن يكون دليلا على انخفاض الأسعار منذ عام مضى، فالجدال حول خطة التوظف الأمريكية ومقترحات البنية الأساسية المستقبلية يمكن أن تخرج عن مسارها الصحيح.
وكنتيجة لهذا، فإن التحرك في أرقام التضخم البارزة خلال الشهور القليلة المقبلة سوف يتم الهيمنة عليها ليس عن طريق التغييرات في الأسعار اليوم، بل بالتغييرات الأكبر كثيرا لما حدث منذ عام مضى.
ومن أجل الحصول على فكرة عن الانحياز الذي سوف يتم تقديمه، فلنأخذ في الاعتبار المثال المتطرف من أنه لن يكون هناك تضخم على الإطلاق خلال الشهور المقبلة، مما يعني أن مستوى السعر سوف يكون هو نفسه بالضبط من مارس وحتى مايو مثل ما كان عليه في فبراير، ولو حدث هذا أي بقيت الأسعار ثابتة فإن معدل التضخم على أساس سنوي سيبلغ 2% في مارس، و2.7% في أبريل، و2.8% في مايو. وعلى الرغم من أن الأسعار لم ترتفع إطلاقا في مثل هذا السيناريو فإن القياس على أساس سنوي سوف يظل يظهر ارتفاعا في الأسعار، مدفوعا بالكامل بالانخفاض في الأسعار الذي حدث في العام الماضي، ومعدل التضخم السنوي سوف يظهر مرتفعا على الورق، بينما ما يظهره لنا حقيقة هو الانكماش الذي حدث في 2020، وليس التضخم في 2021.
وبدلا من ذلك، فلنتأمل السيناريو الذي يقوم فيه نظام الاحتياط الفيدرالي بالوصول إلى هدفه المتمثل في 2% كمعدل للتضخم مقاسا بمؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي؛ وحيث إن هذا المؤشر يميل إلى الارتفاع بنحو نصف نقطة عن مؤشر أسعار المستهلك، فإن هذا يترجم إلى 2.5% زيادة سنوية في مؤشر أسعار المستهلك وهو هدف السياسة النقدية لنظام الاحتياط الفيدرالي، ومع ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك بمقدار 2.5% كمعدل سنوي، فإن التضخم على أساس سنوي سيكون 2.2% في مارس، ثم 3.1% في أبريل، ثم 3.5% في مايو، وسوف يبدو التضخم مرتفعا بشكل مفاجئ ويحقق نموا، على الرغم من أن السلوك الحقيقي للأسعار سوف يكون متماشيا بالضبط مع هدف نظام الاحتياط الفيدرالي البالغ 2%.
التضخم الأعلى هو مجرد جزء من التعافي الاقتصادي القوي
ما الذي يمكننا عمله للتأكد من أن مناقشات السياسة الاقتصادية لم تخرج عن مسارها بسبب التضخم الوهمي؟
كبداية، يمكننا الاعتراف بأن هذه مشكلة جيدة، فلو أننا رأينا الارتفاعات الكبيرة في الأسعار نسبة إلى فترة الانكماش منذ عام مضى، فإن هذا يعني أن انخفاضات الأسعار والدخول في الربيع لم تظل حبيسة أو عالقة.
فالارتفاع الواضح في التضخم خلال الشهور القليلة المقبلة هو إحدى العلامات على الارتداد السريع من الركود، وهو شيء لم نختبره خلال فترات التراجع الأخيرة في النشاط الاقتصادي، فبفضل خطة الإنقاذ الاقتصادي ارتفعت الدخول بسرعة كافية لتعوض عن الانخفاض الذي شهدناه خلال العام الماضي، وواعدة بتعافٍ أقوى عما رأيناه خلال جيل، فلم يكن هناك ارتفاع كبير واضح في التضخم بعد انخفاض مماثل في الأسعار خلال الأزمة المالية 2008-2009، وذلك ليس بسبب عمل جيد لنظام الاحتياط الفيدرالي في الوصول إلى هدفه المحدد للتضخم ولكن بدقة لأنه فشل في الوصول لذلك، مع فترة من الانكماش الصريح جاء في أعقابها سنوات من مستويات أقل من الهدف المحدد للتضخم.
ومع هذا فإن إدراك أن الارتفاع الصريح في التضخم نتيجة ضرورية لتعافٍ قوي في النشاط الاقتصادي لا يحل مشكلة البيانات، وإذا لم يكن معدل التضخم على أساس سنوي هو مقياس له مغزى الآن، فما الذي ينبغي أن نبحث عنه؟
أحد الاحتمالات هو أن نبحث عن فترات أقصر -التغير خلال الشهر الماضي أو خلال ربع العام الأخير، وسوف يجنبنا هذا الوهم البصري في استخدام فترة الإغلاق كنقطة أساس، والعقبة هي أن بيانات الأسعار لفترة الشهر وحتى ربع السنة هي أكثر تشوشا من البيانات السنوية- مع وجود تغير عشوائي أكثر، والذي لا يبلغنا أي شيء عن حالة الاقتصاد.
والمنهج الأكثر تعقيدا وذو المغزى الاقتصادي هو النظر في الاتجاه خلال فترة ما قبل الجائحة-فبراير 2020 أو قبل ذلك.
النظر إلى التضخم بهذه الطريقة لا يجنبنا فقط وهم نقطة الأساس، ولكنه أكثر اتساقا مع الطريقة التي يفكر بها نظام الاحتياط الفيدرالي في التضخم، فالاحتياط الفيدرالي كان واضحا في أنه يرى هدفه للتضخم كهدف متماثل لمتوسط التضخم خلال فترة طويلة، وهذا يعني أن الفترات التي يكون فيها معدل التضخم أقل من هدف التضخم لنظام الاحتياط الفيدرالي ينبغي أن يعقبها فترات يكون فيها معدل التضخم أعلى من هدف الاحتياط الفيدرالي للتضخم، كما خلص لذلك رئيس نظام الاحتياط الفيدرالي جيروم باول في حديثه خلال شهر أغسطس، بإعلانه عن استراتيجة الاحتياط الفيدرالي الجديدة، “ولهذا في أعقاب الفترات التي يسجل فيها التضخم معدلات أقل من 2%، من المرجح أن تهدف السياسة النقدية المناسبة إلى تحقيق معدل تضخم يكون أعلى بشكل معتدل عن 2% لبعض الوقت”.
وفي ظل هذا المنهج، يكون السؤال الجدير بالاعتبار ليس هو التغير في الأسعار خلال العام الماضي أو أي فترة أخرى، ولكن عما إذا كان مستوى الأسعار هو فوق أو تحت المستوى الذي يكون عنده التضخم باستمرار عند 2%.
وفي مثل هذا الإطار، فإن الهدف اليوم لن يكون معدل تضخم ثابتا عند 2%، ولكن كون الارتفاع في الأسعار سريعا بما فيه الكفاية للتعويض عن فترات الانخفاض، على الأقل الانخفاض بسبب الجائحة، وربما يمكن القول الانخفاض خلال فترة أكثر من عقد من الزمن كان فيها معدل التضخم أغلب الوقت أقل من هدف التضخم لنظام الاحتياط الفيدرالي كذلك.