اخترنا لكم

الأرمن والنازية العثمانية

وليد فكري


مذابح عبد الحميد الثاني بحق الأرمن أقامت الرأي العام العالمي ضده.. وبات محاصرًا بالخوف من أن يطالب الأرمن بحق الحكم الذاتي أسوة بشعوب البلقان..

هنا صار لدى العثمانيين منطق واحد للنظر للأزمة الأرمنية: أن الحل الناجح للقضاء على أزمة الأرمن هو القضاء على الأرمن أنفسهم..

وهكذا قرر عبد الحميد الثاني أن ينتهج سياسة الهجمات والمذابح المتكررة على المناطق الأرمنية ليقتل منهم من يقتل ويُدفَع الناجون للنزوح خارج منطقة الأناضول التي ينظر إليها الأرمن باعتبارها موطنهم منذ 3000 سنة بينما ينظر لها العثمانيون باعتبارها نواة دولتهم من ناحية وباعتبارها تمثل ثورتهم الزراعية وشبكة طرقهم الاستراتيجية من ناحية أخرى..

نهاية الطاغية عبد الحميد الثاني

ولأن السلطان العثماني كان من الحماقة بحيث أنه يغضب الجميع في آن واحد، فقد تسببت سياساته القمعية بحق معارضيه من كل الفئات في تشكيل تحالف في عام 1902م ضم أعضاء جماعة تركيا المعارضة والمشكلة من بعض العسكريين الأتراك في باريس وسالونيك ومعها المعارضون من العرب واليونان واليهود والألبان والأكراد والجراكسة والأرمن، وطالبوا جميعًا بحياة دستورية يتساوى فيها كل رعايا الدولة العثمانية من دون تفريق بسبب عرق أو دين..

ومن ناحية أخرى حاول بعض الأرمن ممن ينتهجون العمل المسلح أن يقوموا بأعمال عنف انتقامية ضد السلطة، فحاول أحدهم اغتيال البطريرك الأرمني في الأستانة بحجة تخاذله وخيانته القضية، وحاول الآخر اغتيال السلطان نفسه بعد صلاة الجمعة بسبب مذابح نفذتها القوات العثمانية في جبل ساسون في أغسطس 1903م ومايو 1904م

وفي 1907م اتحد جناحا تركيا الفتاة في باريس وسالونيك تحت مسمى “الاتحاد والترقي” وبدأ التحرك المسلح من سالونيك بمقدونيا باتجاه الأستانة، وفي 1908م أجبروا عبد الحميد الثاني على إعلان الحكومة الدستورية وإعادة البرلمان

بناء على هذا النجاح استطاع الأرمن ممارسة العمل السياسي وانضم منهم 14 عضوًا في “مجلس مبعوثان”(البرلمان) وأعلنوا تفاؤلهم بالازدهار للدولة العثمانية وتمسكهم بوحدتها..

ولكن تشكل في البرلمان حزب معارض للاتحاد والترقي هو “الأحرار العثمانيون” حاول أن ينقلب على الاتحاد والترقي وأن يناصر عبد الحميد الثاني، ووقعت أحداث عنف تخللتها شائعات متعصبة ضد الأرمن أنهم يستعدون للتمرد، فتعرض هؤلاء لمذابح بشعة أسقطت الآلاف منهم على أيدي مسلمين متعصبين أو أتراك قوميين متعصبين للعرق التركي.. ولكن سرعان ما عادت القوات الموالية لـ”الاتحاد والترقي” وحاصرت السلطان وخلعته ونفته ووضعت محله أخاه السلطان الدُمية محمد رشاد الخامس وصار الاتحاديون-أعضاء الاتحاد والترقي-هم الحكام الحقيقيين للدولة

وهكذا انتهى العهد الأسود الدامي للطاغية عبد الحميد الثاني.. ولكن لم تنتهِ معاناة الأرمن.

صورة جديدة من التعصب العثماني

بعد شهر العسل بين الأرمن والعناصر غير التركية من ناحية، والاتحاديين من ناحية أخرى، خلع هؤلاء قناع الوحدة والإخاء وأسفروا عن وجه جديد للعنصرية العثمانية المقيتة..

ففكرة الاتحاديين عن اتحاد العناصر المكونة للدولة لم تكن في شكل “احتفاظ كل عنصر بخصائصه وطبيعته وخصوصيته مع المساواة أمام القانون” وإنما كانت في شكل “طمس هوية الجميع لصالح الهوية التركية” أي أن المطلوب هو التتريك الكامل لكل الخاضعين للسلطة العثمانية!

والمثير أن هذا الاتجاه لم يكن مجرد نزوة من أصحاب السلطة بل وجد من يُنظّرون له من المثقفين والكتاب الأتراك..

وبالفعل جرى ذلك من خلال غلق الأندية والجمعيات غير التركية، وفرض اللغة التركية على التعليم والمعاملات، بل التفتيش على مدارس الأقليات لضمان ذوبانهم في الثقافة العثمانية، وهو ما أثار موجة سخط عاتية.. وما زاد الطين بلة تجدد الهجمات الكردية على المناطق الأرمنية وسكوت السلطة عن ذلك.

ونشأت حركة معارضة داخل البرلمان العثماني أدت لسقوط نظام الاتحاديين وقيام حكومة معتدلة في عام 1912م، وساند الأرمن تلك الحكومة ودعموها إلى حد أن وزير خارجيتها كان أرمنيًا، وعندما اندلعت الحرب في البلقان وافق الأرمن بلا تردد على التجنيد في الجيش العثماني للدفاع عن الدولة..

ولكن هزيمة العثمانيين في البلقان أسقطت أسهم الحكومة مما شجع الاتحاديين على الاستيلاء على الحكم بانقلاب عام 1913م

وهذه المرة كان القوس المشدود على آخره مستعدًا للارتداد، فعودة الاتحاديين مع هزيمة الدولة العثمانية وفقدانها البلقان تسببتا في خلق تيار رافض تمامًا لفكرة “التعايش بين الإثنيات” ليحل محله تيار ينادي بالقضاء على خصوصية العرقيات والإثنيات وإدماجها بالقوة في المحتوى التركي العثماني (علمًا بأن هذا التنوع الإثني لطالما كان من أسباب قوة الحضارة الإسلامية التي قضى عليها العثمانيون)

وما أضاف للنار مزيدًا من الحطب أن هذا التيار بدأ يتحدث عن ضرورة خلق سيطرة للعنصر العثماني على الاقتصاد بشكل يتطلب إقصاء القوى الاقتصادية غير عثمانية العرق في الدولة، والمقصود هنا هو الرأسماليين غير المسلمين أو غير الأتراك.. وعلى رأسهم الأرمن..

القارئ للتفاصيل يدرك أن العثمانيين قد سبقوا النازيين في هذا التفكير العنصري المخيف..

وبدا واضحًا أن الأرمن ينتظرهم مزيد من الويل على أيدي العثمانيين القوميين المتعصبين، وكأنما كان ينقص العثمانيين تعصب على تعصبهم!

نقلا عن سكاي نيوز عربية

زر الذهاب إلى الأعلى