تعددت جبهات الرئيس التركي، والهدف واحد، إشعال الحروب في الخارج أو الانضمام لها لشغل الأتراك عما طالهم في عهده. وتحديدا بعدما تحولت دولتهم إلى رهينة للحاكم الفرد. يلهث رجب طيب أردوغان وراء إرث الإمبراطورية المدفون تحت صرح الجمهورية التي شيدت بجهود وأحلام أجيال متلاحقة على مدار مئة عام. متجاهلا حقيقة أن التاريخ لا يعيد نفسه، وقد انتهى زمن العثمانية وفرمانات الباب العالي.
من سوريا إلى العراق ثم ليبيا وبعدها اليونان وصولاً إلى أرمينيا، يغرق أردوغان في وحل أزماته الواحدة تلو الأخرى. يخوض الحروب ويشعل الجبهات غير مكترث بالتكلفة التي تتكبدها بلاده والتداعيات التي تطال شعبه. ذريعة السلطان في كل جبهة هي حماية مصالح الدولة. وهنا يختلط على الأتراك الأمر، لأن من يحصد الغنائم هو الرئيس وعائلته وبطانته، أما اقتصاد الدولة التركية فهو في تراجع مستمر.
لم يعد خافيا على أحد في المنطقة والعالم الأطماع التوسعية لأردوغان. ولم يعد مقنعا لشعبه قبل العرب والروس والأوروبيين والأمريكيين والإيرانيين، إن ما يفعله هو بدافع الحق وليس بمنطق البلطجة. كل ما يسوقه من مبررات لمغامراته خارج الحدود يفضح حقيقة واضحة بما يكفي لحلفائه وأعدائه على السواء. لقد أفلس الرئيس داخليا، ولم يعد في جعبته ما يقدمه إلا مواصلة الهروب حتى يحين أجله السياسي.
ولأن مبرراته مكشوفة وأدواته وأساليبه مفضوحة، تنبه الجميع مبكرا للجبهة الجديدة التي أشعلها السلطان في ناغورني قره باخ. فتعالت الأصوات المطالبة له بالتوقف عن دعم الصراع في قره باخ والنزوح إلى السلم في تلك المنطقة التي باتت على كف عفريت بسبب مغامراته. ربما من الأدق القول إن العالم بأكمله بات يغلي غضبا من “السلطان”الغارق في أوهامه. والهارب من أزماته الداخلية الاقتصادية والسياسية.
الوصفة هي ذاتها، مرتزقة سوريون وليبيون ينقلون إلى أرض المعركة التي لا تخصهم إلا بقدر قيمة الرواتب التي يدفعها لهم “السلطان“. وضباط أتراك يديرون العمليات بالمرتزقة على الأرض، والطائرات المسيرة في السماء. لا يهم كم يسقط من الضحايا، ولا كم مدينة أو مبنى يتهدم فوق رؤوس أصحابه. فجل ما يشغل بال “الأب الروحي” لجماعة الإخوان هو كمية الدولارات التي ستدخل جيوب عائلته وبطانته.
ولطالما استغل أردوغان تلك التبايانات بين الأمريكيين والأوروبيين حول أزمات المنطقة والعالم. لم يعد يجدي ذلك اليوم بعد أن أمعن “السلطان” في عنجهيته وتمادى في غيهِ. ما تقوله التحركات الأمريكية الخارجية الأخيرة هو أن واشنطن وبروكسل اتفقتا ضمنيا على أن الإمبراطورية العثمانية التي يحلم بها “السلطان” لن يستردها.
ما فعله وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين خلال الأيام الماضية، يؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد تؤيد “السلطان” فيما يفعل. ولم تعد أيضا تريد تجاهل خلافه مع الأوروبيين في شرق المتوسط أو ليبيا أو أي مكان أخر. لقد اتضح للأمريكيين كما لغيرهم، أن أردوغان يحاول التحايل على الجميع في وقت واحد. كما لا يمكن أبداً الوثوق بتحالفاته لأنه ببساطة يستغلها أسوأ استغلال، ويبطن فيها غير ما يظهر.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى اليونان، وما صدر بعدها عن القمة الأوروبية حسم ملف التوتر شرق المتوسط باتجاه خيار واحد لا بديل عنه. المفاوضات هي من سترسم حدود الاستفادة التركية من ثروات المتوسط، وليس العربدة الأردوغانية. مع الانتباه إلى أن هذه الاستفادة لا تعني بأي حال من الأحوال عودة حدود الإمبراطورية العثمانية في القارة الأوروبية إلى ما قبل اتفاقية لوزان عام 1923.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة والعالم وضعوا حدا أيضا للأطماع التركية في شمال إفريقيا. بدأ الأمر برفع يد أردوغان عن الحوار الليبي ليعبر بسلام نحو اتفاقات جديدة لحل الأزمة في البلاد. ومن ثم جاءت جولة وزير الدفاع الأمريكي المغاربية، وتوقيع اتفاقات مع تونس والجزائر والمغرب للتعاون في الأمن ومحاربة الإرهاب. الرسالة واضحة لا يوجد متسع لمزيد من أحلام أردوغان شمال القارة السمراء.
ثمة رسالة مشابهة تلقاها “السلطان” سابقا شمال شرق سوريا عندما تراجع الأمريكيون عن انسحابهم من هناك، وأعادوا تموضع قواتهم كي لا يتجاوز الأتراك جيبهم العدواني في تلك المنطقة. لا تزال إدارة الرئيس دونالد ترامب تضيف أسطرا إلى هذه الرسالة، ولن يكون أياً منها مفرحا لأردوغان. كما أنها لن تحمل له مهما طال الزمن مباركة أمريكية أو غربية بعودة الاحتلال العثماني إلى سوريا أو أي دولة عربية.
ولأن تجريب المجرب لا يجدي، لن يتباطأ الأمريكيون في إغلاق بوابة إقليم قره باخ أمام الرئيس التركي. ولذات السبب أيضا لن يترك الروس أردوغان يصنع “إدلب جديدة” له في أذربيجان ويبتزهم بها. كذلك لن يقبل الفرنسيون والأوروبيون عموما بتأزم الأوضاع هناك لتتحول إلى حرب لا يمكن توقع نتائجها. خاصة وأن تركيا دولة عضو في حلف الناتو، والسلطان لن يتردد في جره إلى مغامرة من مغامراته.
لن يتوقف سعي الرئيس التركي إلى فتح بوابات هرب جديدة لنفسه إذا ما أغلق ملف النزاع الأرميني الأذري. فالأمر بات أساسيا فيما تبقى من سنوات حكمه. من دون هذه البوابات لن يجد “السلطان” مفراً من مواجهة شعبه فيما آلت إليه الأمور من تردٍ للأوضاع الاقتصادية، وتراجع للحريات العامة، وتدهور في العلاقات الخارجية لدولة كان تتبنى شعار “صفر مشاكل” في نسج علاقاتها مع العالم. إن كان أردوغان يراهن على الأصوات المتعاطفة مع أحلامه العثمانية في انتخابات 2023، فعليه أن يعيد النظر في حساباته. لأن فتات إنجازاته خارج الحدود لن تجعل منه “سلطانا” بنظر الأتراك أبداً.
نقلا عن العين الإخبارية