المحتجون على “فروسية” توني بلير
اعتادت ملكة بريطانيا، أليزَبِث الثانية، أن تكرِّم المتميزين والمبدعين مرتين في العام، الأولى في رأس السنة والثانية في عيد ميلادها في 12يونيو.
وبين الذين تسلموا وسام الفارس لهذا العام، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، لكن تكريمه لم يمر بهدوء، إذ وقّع آلاف المعترضين عريضة تطالب بإلغائه.
لم يحدث سابقا أن يعترض أحد على قائمة الشرف الملكية أو يرفض التكريم، سوى قلة من أمثال مطرب فرقة الخنافس، جون لنين، الذي أعاد وسام الفارس إلى الملكة محتجا على تورط بريطانيا في الحرب الأهلية في نيجيريا عام 1966! الاعتراض على تكريم بلير يتعلق باشتراك بريطانيا في حرب العراق عام 2003، والمعترضون يساريون متشددون وعرب وإسلاميون، جمعهم حلفٌ غير مقدس في قضية لا يمكن وصفها إلا بالعبثية.
لم يكن بلير أول زعيم بريطاني يُشرِك بلده في حرب، فقد كان سلفه جون ميجور قد خاض حربا على العراق عام 1991، وتسبب في قتل آلاف العراقيين وتدمير البنى الأساسية للدولة، لكن أحدا لم يعترض على تكريمه بلقب الفارس. وكذلك رئيسة الوزراء، مارغريت ثاتشر، التي قادت الحملة الدولية للحرب الأولى عام 1991 وتبنت قرار العقوبات الدولية على العراق، وشنت حربا على الأرجنتين عام 1982 لإخراجها من جزر الفوكلاندز البريطانية التي ادعت عائديتها لها، بينما كُرِّمت بلقب السيدة (ليدي).
وكانت هناك أيضا احتجاجات واسعة بين البريطانيين على تينك الحربين، العراق والفوكلاندز، بل إن ثاتشر كانت متهمة بأنها أمرت بإغراق سفينة (بلغرانو) الحربية الأرجنتينية حينما كانت منسحبة بعيدا عن جزر الفوكلاندز، ما تسبب في إغراق 332 بحّارا، وقد ظل البريطانيون يلومونها على تلك الحادثة لسنين طويلة، لأن السفينة كانت منسحبة، ومهاجمتها لا تجوز في أعراف الحروب، وكانت دائما ترد بالقول إن (مثل هذه الاحتجاجات لا تحصل إلا في بريطانيا) باعتبار أن هناك إحساسا مفرطا بالإنصاف عند البريطانيين.
لكن مشكلة توني بلير هي في الجناح اليساري المتشدد في حزب العمال، الذي كان يتزعمه إلى عهد قريب، اليساري المتشدد جرمي كوربن. وهذا الجناح يعادي المعتدلين داخل الحزب أكثر من اليمينيين خارجه، وهو الذي يشن الحملة على توني بلير منذ انتخابه زعيما للحزب عام 1994، وينتهز أي فرصة للانقضاض عليه.
تكريم المبدعين والمتميزين مسألة طبيعية في بريطانيا، وقد اعتادت عليها الدولة والمجتمع منذ قرون عديدة. ويجري اختيار الشخصيات المكرَّمة بطريقة مهنية ومنصفة، إذ تُشكَّل لجان في كل اختصاص، ويترأس كل لجنة شخص مشهود لها في التخصص، كأن يكون رئيس جامعة، أو رئيس جمعية مهنية أو شخصية مشهودا لها بالإبداع والتميز في الحقل الذي يتولى اختيار المتميزين فيه. أما الترشُّح للتكريم، فيحصل ابتداءً عبر منظمات المجتمع المدني، فكل جمعية أو مؤسسة يمكنها أن تقترح اسما يستحق التكريم، مع تبيان المؤهلات والأسباب التي تجعله مؤهلا للحصول على اللقب الشرفي.
وتعود الألقاب الشرفية في بريطانيا إلى عهود قديمة وكان يقدمها الملك لأبناء العائلات الأرستقراطية أو أفراد العائلة المالكة كتعويض لهم عن فواتهم فرصا أخرى، مادية كانت أم معنوية. لكنها أصبحت منذ القرن الثامن عشر تجري بتوصية من الحكومة إلى الملك، الذي يمنح التكريم رسميا بناءً على هذه التوصية، ولا يتدخل فيها مطلقا.
الطريف أن من أوائل القرارات التي اتخذها توني بلير كرئيس للوزراء هو إلغاء الألقاب الوراثية، بل وإلغاء التكريمات الشرفية للسياسيين، التي كانت تحصل سابقا كإجراء رمزي جرت عليه الحكومات المتعاقبة. لكن الألقاب الشرفية ظلت تُمنح للسياسيين الذين حققوا إنجازات حقيقية فحسب. ولا شك أن توني بلير له إنجازات حقيقية، وما تزال بصماته السياسية والاقتصادية والتشريعية شاخصة، لا يستطيع حتى خصومه إنكارها.
في عهد توني بلير سُنَّت العديد من القوانين التقدمية المنصفة مثل قانون الحد الأدنى للأجور لعام 1998 الذي ضمن للعمال أجرا معقولا يمكنهم من العيش المريح، عبر منع أرباب العمل من دفع أجور أقل مما يفرضه القانون.
وفي عصره أيضا سُن قانون حقوق الإنسان لعام 1998، وقانون حرية المعلومات لعام 2000، وقانون الإصلاحات الدستورية لعام 2005 الذي فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي عهده أجري استفتاء للحكم الذاتي في مقاطعتي إسكتلندا وويلز، وأصبح لهما برلمانان وحكومتان مستقلتان عن الحكومة المركزية.
وفي عهد بلير نال البنك المركزي البريطاني استقلاله عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبذلك استقلت السياسة النقدية عن السياسة المالية، فأصبحت الحكومة تضع خططها الاقتصادية والتنموية، وفق رؤى البنك المركزي وتوقعاته، وليس العكس، إذ يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة أو يخفضها، أو يزيد العملة المتداولة أو يقلصها وفق ما يتطلبه الوضع الاقتصادي دون تدخل الحكومة. وقد شهدت ولايته، التي استمرت عشر سنوات، أطول فترة نمو اقتصادي مطرد في تأريخ بريطانيا.
ومن أهم إنجازات بلير هو إنهاء الصراع في أيرلندا الشمالية، إذ شَرَعَ في مفاوضات عسيرة مع الفصائل المتصارعة وحكومة أيرلندا الجنوبية، تمخضت عن توقيع اتفاقية الجمعة الحزينة عام 1998. وقد صافح بلير جيري آدمز، الزعيم السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي، وسط احتجاجات السياسيين المحافظين، الذين كانوا يتهمون آدمز بالوقوف وراء أعمال العنف التي طالت المقاطعة وعموم بريطانيا لثلاثة عقود. وبرر بلير المصافحة بالقول “لقد تعاملت معه كإنسان، ونحن الآن على أبواب مرحلة جديدة”.
كما سهَّل قدوم المهاجرين، من دول الاتحاد الأوربي، الذين رفدوا الاقتصاد البريطاني بعمالة منخفضة الكلفة، ما ساهم في خفض معدل التضخم واستمرار النمو الاقتصادي المطرد. وقد شهد حكمه تحسنا ملحوظا في المستوى المعاشي للفقراء، إذ نجح في تقليص البطالة وزيادة الإنفاق الحكومي على الخِدْمات، وبالتحديد خدمة الصحة العامة، التي يفتخر حزب العمال بأنها أحد أهم إنجازاته التأريخية، بالإضافة إلى إنشاء برامج تشغيل وتدريب العمال وتشجيع أصحاب العمل على استيعابهم عبر تقديم الحوافر الضريبية لهم.
كما تمكن من إزالة المادة الرابعة من دستور حزب العمال، التي تلزم الحزب بتأميم وسائل الإنتاج، الأمر الذي شجع الطبقة الوسطى للتصويت للحزب. وفي عهده أيضا تبنى حزب العمال فقرة في نظامه الداخلي تشترط أن يكون نصف مرشحي الحزب للبرلمان من النساء، الأمر الذي زاد من شعبيته ومكّنه من الفوز فوزا ساحقا ثلاث مرات متتالية، لأول مرة في تأريخ الحزب. كما كان بلير رائدا في تعزيز التعددية الثقافية والتسامح في المجتمع البريطاني، إذ شرَّعت حكومته العديد من القوانين في هذا المجال للحد من التمييز ضد الأفراد والشرائح السكانية المختلفة.
رفع بلير شعار (سأكون شديدا على الجريمة وشديدا على أسبابها) عندما كان في المعارضة، وقد طبق الشعار في الحكومة، إذ رفع عدد أفراد الشرطة في المراكز والشوارع، فازداد عدد السجناء بسبب تمكن أجهزة الأمن من الإمساك بالمجرمين بسرعة فائقة، وفي يوم وقوع الجريمة أحيانا، الأمر الذي قلص من الجريمة وأشعر السكان بالأمان.
المحتجون على تكريم توني بلير لديهم سبب واحد فقط، وهو أنه اشترك في حرب العراق، إذ يرون أن على بريطانيا أن ترفض التعاون مع الولايات المتحدة، وينسون أن أي رئيس وزراء بريطاني كان سيتخذ الموقف نفسه، فالعلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة علاقة تحالف استراتيجي لا ينفرط عقدها مطلقا. عندما دخلت بريطانيا الحرب مع الأرجنتين عام 1982، حاول وزير الخارجية الأمريكي، ألكساندر هيغ، أن يتخذ موقفا محايدا، باعتبار أن الأرجنتين دولة أمريكية، لكن الضغوط السياسية والشعبية دفعت الرئيس ريغان للوقوف مع بريطانيا، فاضطر هيغ إلى الاستقالة.
لم تكن الحرب التي شُنّت على العراق عام 2003 قرارا منفردا لتوني بلير، إذ أقرها البرلمان البريطاني بنسبة الثلثين (412 مقابل 149)، والشيء نفسه حصل في الولايات المتحدة والدول المشاركة في الحرب. لذلك فإن بلير لا يتحمل وزرها وحده.
وعندما أحيل ملف حرب العراق إلى التحقيق عام 2009، تحت إشراف المحقق المتمرس جون تشيلكوت، فإنه أشكل عليه قوله في رسالة خاصة إلى الرئيس جورج بوش (سنكون معك في كل الأحوال)، فهذا القول جعل موقف بريطانيا يبدو تابعا للقرار الأمريكي، والحقيقة أن مواقف بريطانيا نادرا ما تتعارض مع المواقف الأمريكية، وما قاله بلير يعبر عن هذه الحقيقة.
كانت الحرب على العراق عام 2003 غير مبررة قانونا، فلم يصدر بها قرار أممي، رغم أن ثماني دول، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا (أعضاء في مجلس الأمن) وأستراليا واليابان وبولندا والدنمارك وإيطاليا، كانت قد اقترحت إصدار قرار باستخدام القوة العسكرية، لكن المعارضة الفرنسية والألمانية والروسية (أعضاء في مجلس الأمن) قد حالت دون إصداره.
لا شك أن حكم صدام حسين كان كارثة حلت بالعراق والمنطقة، إذ أدخلها في حروب وأزمات مستمرة، فبعد قمعه الوحشي للأحزاب المعارضة لحكمه، وبالتحديد الشيوعي والدعوة والبعث اليساري والأحزاب الكردية والجماعات الدينية، اتجه نحو أصحاب الرأي المخالف في حزبه، وقتل أهم قادته في مجزرة جماعية قل نظيرها في العصر الحديث. وبعد أن قضى على الآراء المخالفة في حزبه، توجه نحو أفراد عائلته وقتل منهم أقرب الناس إليه، إلا وهم أصهاره وبنو عمومته. وعندما ثار الشعب عليه قتل الآلاف منهم ودفنهم في مقابر جماعية.
وبعد انتهاء حرب الثماني سنوات مع إيران، شن حربا على الكويت واحتلها ورفض الانسحاب منها، بل إن قواته توغلت حتى في أراضي المملكة العربية السعودية، الأمر الذي أقنع المجتمع الدولي بأن هناك نظاما خطيرا في العراق، مستعدا لانتهاك القوانين والأعراف الدولية، ولابد من الخلاص منه بطريقة أو بأخرى.
لقد شكل احتلال الكويت بداية النهاية للنظام العراقي السابق، ولو كان هناك حكماء بين القيادة العراقية آنذاك، لكانوا قد أجروا إصلاحات جذرية لتغيير النظام بما يتلاءم مع التطورات الدولية ومطالب الشعب، الذي ثار عليه في آذار عام 1991. لكن النظام لم يكن قابلا للتطور، وكانت النتيجة مأساوية، وقادت إلى مزيد من الكوارث والحروب، وفرض عقوبات دولية قاسية، قوضت أسس الدولة العراقية، وشتتت المجتمع، الأمر الذي دفع دولا عديدة لشن حرب أخرى على العراق.
كان يمكن المجتمع الدولي أن ينتبه إلى خطورة النظام العراقي منذ مجيئه إلى السلطة حينما نصب المشانق للتجار والأبرياء وسط العاصمة والمدن الرئيسية، وإن كان صعبا حينها أن يفعل شيئا بسبب الحرب الباردة، كان ممكنا أن يتخذ إجراءً حازما في التسعينيات التي ارتكب فيها النظام أبشع جرائمه.
لقد جاء التدخل الدولي متأخرا جدا، لأن الدمار السياسي والاجتماعي والاقتصادي قد حل بالعراق حينها، وكان بحاجة إلى علاج من نوع آخر. المحتجون على تكريم توني بلير من العرب والمسلمين، ومعظمهم انتفع من سياساته، إما أنهم يجهلون الأسباب التي دفعت العالم إلى شن حربين على العراق خلال 12 عاما، أو أنهم يعيشون في عالم منفصل عن العالم الحقيقي.
سكاي نيوز