منذ خمسينيات القرن الماضي وتحديدا مع حقبة التحرر الوطني من الاستعمار دخل العالم العربي إلى مرحلة تحول فيها إلى فريسة ورهينة لثلاثة مشاريع:
مشروع صهيوني تديره إسرائيل
مشروع فارسي تديره إيران
ومشروع عثماني تديره تركيا
وكل واحد من هذا المشاريع اختار جغرافية ليتمدد فيها، وكل مشروع اختار أيضا توقيته وزمن تحركه. والملفت حقا أن تلك المشاريع لم تتداخل مع بعضها وكأن هناك تنسيقا ضمنيا بين كل مستعمر وآخر، بل أثبتت أحداث الزمن أن تلك المشاريع الاستعمارية تتقارب على حساب الفريسة أو الغنيمة التي هي “نحن”.
المتأمل للمشروع العثماني والمشروع الفارسي سيجد أنهما اتبعا نفس النهج والتكتيك والطريقة، في نفس الوقت ستجد أن المشروع التركي العثماني لم يتصادم مع المشروع الصهيوني الإسرائيلي ولا مرة هنا أقصد التصادم عسكريا، دعك مما حدث في قافلة الحرية أو ما حدث في مؤتمر دافوس من قبل أردوغان “فلقد اكتشفنا بعد ذلك أن أردوغان” اتبع مع الصهاينة مبدأ العراك على التفاصيل والاتفاق على القضايا الجوهرية. وأن أردوغان جنى مكاسب من هذا العرض في مؤتمر دافوس وكأنه فتح القدس، رغم أنه في نفس الوقت كان التبادل العسكري قائما والمناورات العسكرية المشتركة التي دأبت إسرائيل على إقامتها بالتعاون مع تركيا، أضف إلى ذلك تكنولوجيا التسلح بل تبادل الأسلحة نفسها.
فمؤخرا أعلن أحد المواقع الروسية أن تكنولوجيا الطائرات بدون طيار التي تستخدمها تركيا حصلت عليها من إسرائيل خصوصا الطائرات من عائلة “بيرقدار” التي تشبه إلى حد كبير الطائرات بدون طيار المصنعة في إسرائيل مثل (IAI) هيرون وطيارات “أيرو ستار”. والحقيقة التي لا يستطيع أردوغان وأنصاره إنكارها أنه فور تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا 2002 تم رفع مستوى التعاون والعسكري والتبادل التجاري، ودخلت العلاقات التركية الإسرائيلية عصرها الذهبي ومازالت مستمرة حتى الآن .
فور تولي حزب أردوغان الحكم أبلغوا إسرائيل بأنهم لن يغيروا سياستهم معها، وأعلن في كل من تل أبيب وأنقرة، عن رفع مستوى العلاقات وتوسيع رقعة التعاون الاستراتيجي لدرجة التنسيق المشترك حول موضوع الحرب في العراق التي كانت وقتها على الأبواب، والعودة إلى المناورات المشتركة. وأجريت مناورات عسكرية أمام الشواطئ الإسرائيلية باشتراك كل من سلاحي البحرية والجو في البلدين، استغرقت هذه المناورات يومين، وشاركت فيها قوات أمريكية أيضا.
وقتها طلبت تركيا من إسرائيل أن ترسل إليها وفدا عسكريا رفيعا للتباحث حول إمكانية اقتناء تركيا صواريخ «حيتس» المضادة للصواريخ، وهي صواريخ إسرائيلية ـ أمريكية تصنع في تل أبيب وتمولها واشنطن، الأتراك أخذوا تلك الصواريخ قبيل احتلال العراق.
هنا يتأكد للجميع أن الأتراك تعودوا التعاون مع أية مشاريع استعمارية أخرى تستهدف المنطقة وكل ذلك من أجل ضمان نصيبهم من الكعكة، وهذا ما حدث في العراق، فحين كانت أمريكا تحضر لاحتلال العراق لم يتردد أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” عن التنسيق الكامل مع الأمريكيين لضمان تسهيل مهمتهم ففتح لهم عن طيب خاطر قواعده العسكرية بل وجميع أرضه. وهكذا ينسحب الأمر بشكل كامل على ما حدث في العالم العربي بعد 2011. وهذا تاريخ شديد الأهمية بالنسبة “للمشروع العثماني الجديد” فلقد اعتاد اردوغان أن يسمي نفسه “العثماني الجديد” بل تحدث كثيرا عن خطته الاستعمارية في المنطقة العربية و بلا خجل.
المشروع العثماني الاستعماري الجديد لم يكن هو المشروع الرئيس في الأجندة الأردوغانية، فالرجل منذ ما قبل انتصاره السياسي وتشكيله الحكومة التركية بعد فوزهم في الانتخابات ، كان يعلنها أنه يتجه غربا وليس شرقا، يريد الاتحاد الأوروبي ولا يريد العالم العربي، وقتها كانت أمريكا خارجة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكانت قد احتلت أفغانستان وتحضر لاحتلال العراق والغرب كان منقسما .
أردوغان كان يرى في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الغاية والهدف، وحاول كثيرا، وقدم كثيرا من التنازلات حتى جاء الرفض قاطعا ،وقتها أعاد أردوغان تدوير مشاريعه ليتجه شرقا، من الغرب إلى العرب .وبدأ في بلورة خطته ولم يجد سوى تراث أجداده العثمانيين القدامى ليعيد إخراجه من أدراج التاريخ ويبني عليه ، ويبلور مسمى جديدا اسمه عودة “العثمانيين الجدد”. ويعيد نشر النفوذ والتواجد فيما كانت ممالكه القديمة، في العالم العربي، ومن هنا لم يجد خطة أثبتت جدواها سوى الخطة الخمينية، التي تقوم على فكرة الحروب بالوكالة، تمديد الأذرع وتربية الأذناب .
الخميني حين أراد أن يؤسس مشروعه الفارسي التوسعي الإمبريالي كان يحتاج أن يبحث عن أذناب وأذرع وعملاء ليسوقوا له مشروعه ويحاربوا نيابة عنه، فلم يجد سوى البحث في خيمة المذهب، ومنه أعاد اكتشاف “ولاية الفقيه” ليقسم المجتمعات العربية إلى شطرين، وفي نفس الوقت يخلق حربا من وجهة نظره تكون مقدسة يستغل فيها المتشددون من المذهب الشيعي ليحاربوا باسمه.
ونجح الخميني فيما بعد 1979 في التحرك في الجغرافيا العربية، وعلى مدار ما يقرب من أربعين عاما، أصبح المشروع الفارسي التوسعي الإمبريالي كالأخطبوط يرمي بأذرعه القبيحة في لبنان، العراق، اليمن، سوريا .ولم يكن على الخميني أن يقدم سوى “المال” أما الدماء فكانت عربية بامتياز، وظهر هناك تجار الدماء العربية لتحقيق المشروع الفارسي، حسن نصرالله في لبنان، جماعة الحوثي في اليمن، كثيرون في العراق وفي سوريا .ومن هنا وجد أردوغان، خطة جاهزة في استعارة مشروع تم تجربته على أرض الواقع وأتى أُكله.
العثمانيون الجدد حين بحثوا عن أذناب “وأذرع” وعملاء لم يجدوا سوى “الإخوان المسلمين”، يماثل تماما فصيل ولاية الفقيه الذي يمثل التشدد الشيعي، لأن أصحاب الإيديولوجيات المتشددة جاهزون تماما لخوض معارك “الجهل المقدس” وفي نفس الوقت الغنيمة تكون كبيرة ومهمة . غير أردوغان خطاباته التي كانت موجهة إلى الغرب في وصلات غزل ممجوج لتكون موجهة إلى العرب، تحت شعار مغازلة جماعة الإسلام السياسي، وتخلى عن “الخواجة أردوغان” ولبس ثوب “الشيخ رجب أردوغان” ذلك الاسم الذي اطلقوه عليه حين كان تلميذا في المدرسة الابتدائية .
رمى الشيخ رجب، خطاطيفه على رؤوس وقيادات جماعة الإخوان المسلمين خصوصا في مصر، وفي بلاد المغرب العربي الكبير، لم يجد سوى القضية الفلسطينية مطية ليدخل عبرها إلى قلوب العرب، فجاء العرض المسرحي في مؤتمر دافوس، في خطبته الشهيرة في وجه شيمون بيريز.
أضف إلى ذلك قافلة الحرية، وفك الحصار عن غزة، وأطفال غزة، ومع الوقت نجح أردوغان في حلب القضة الفلسطينية حتى أخر قطرة منافع وبقيت غزة محاصرة وزاد التعاون التركي الإسرائيلي أضعافا مضاعفة .
فيما بعد 2011 ومع موجة الربيع العربي قرر أردوغان أن يتحرك على مستوى الجغرافية ليتوسع، فركب الأزمة السورية وتمدد تحت ذريعة الخوف من الأكراد ليصبح الشريط الحدودي الآن شبه تركي لغة وهوية وعملة .
وفي مصر خصوصا إبان حكم المعزول مرسي شعر أن ذراعه الأهم جلس على كرسي الحكم ليرأس أكبر بلد عربي، لكن حكمة الشعب المصري أطاحت بالإخوان وبأردوغان .فعاد إلى سوريا حتى اشتعلت القضية الليبية، فوجدها مكانا مناسبا ليتوسع ناحية المغرب الكبير خصوصا بعد سقوط “البشير” حليفه الإخواني الكبير ” الذي أعطى أردوغان ” جزيرة سواكن السودانية حق انتفاع مدى الحياة، فهو كان يخسر أذرعه وأذنابه في كل بلاد العرب ولم يتبقى سوى حزب النهضة في تونس .
كانت ليبيا هي المربع الذي يريده أردوغان ليناكف مصر ويتوسع عبر حليفه الغنوشي في تونس .يريد أردوغان أن ينشئ في ليبيا قاعدتين عسكريتين، الأولى قاعدة الوطية الجوية غرب العاصمة طرابلس، والثانية الميناء البحري في مدينة مصراتة .
لتصنع تماسا مع قاعدته الأكبر في الصومال وبالتالي يصبح قادرا على إحداث تهديد في المنطقة عبر البحر الأحمر والبحر المتوسط،.لكن التجربة تثبت أن الجغرافيا العربية مرة وبها كثير من اللعنات التي تصيب من يسرقونها.
نكمل في بالمشروع القادم .
نقلا عن العين الإخبارية