تصاعد الإرهاب في الساحل الأفريقي.. الفراغ الأمني يمكّن الجماعات المتطرفة
تُواجه منطقة الساحل الإفريقي تحديات أمنية غير مسبوقة، تفاقمت بفعل موجة الانقلابات العسكرية المتتالية وضعف مؤسسات الدولة، مما أوجد بيئة خصبة لانتشار التنظيمات المسلحة. وفي قلب هذا المشهد المضطرب، تواصل جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، فرع تنظيم “القاعدة”، تعزيز نفوذها، مستغلةً الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب القوات الدولية والأجنبية. ولم تعد هذه الجماعة المتطرفة تكتفي بالهجمات المسلحة، بل باتت تفرض نموذجاً للحكم المحلي عبر المحاكم وجباية الرسوم، حتى وصلت تهديداتها إلى مشارف العاصمة المالية، باماكو، في تصعيد يُنذر بمزيد من التعقيد وعدم الاستقرار في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة.
ومنذ سبتمبر/أيلول الماضي، تمنع الجماعة دخول شاحنات الوقود إلى مالي، حيث تهاجم الشاحنات وتضرم النيران فيها، خاصة القادمة من السنغال وساحل العاج.
ومؤخرا، باتت “نصرة الإسلام والمسلمين” على مشارف باماكو، حيث تعتمد في فرض سيطرتها على العمل المسلح والحكم المحلي عبر محاكم وفرض الرسوم على التنقل. وتشكلت الجماعة عام 2017، بعد تكتل حركات “أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا” و”المرابطون” وجناح الصحراء التابع لـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”. وفي شمال مالي، تنشط حركة “أنصار الدين” التي تأسست في ديسمبر/كانون الأول 2011.
فراغ أمني
حذر محمد الطيار، الخبير الأمني المغربي المتخصص في منطقة الساحل والصحراء، من تحول بعض الأماكن بالمنطقة إلى “ملآذات آمنة للتنظيمات الإرهابية”. وفي حوار مع الأناضول، قال إن “الانقلابات العسكرية المتكررة بدول الساحل ساهمت في إرباك عمل المؤسسات الأمنية، في وقت تتفاقم فيه معدلات الفقر والتهميش خصوصا في المناطق النائية التي تشعر بالقطيعة مع السلطة المركزية”، لافتا إلى أن “الجماعات الإرهابية تستغل الفراغ الأمني الذي أحدثه انسحاب القوات الدولية” من المنطقة.
وفي 7 يونيو/حزيران الماضي، أعلنت مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية مغادرتها أراضي مالي بعد قتالها هناك لأكثر من 3 أعوام، واستبدالها بقوات “الفيلق الإفريقي” الذي تشكل بدعم من وزارة الدفاع الروسية.
كما أنهت بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي “مينوسما” مهامها في البلاد في يونيو/حزيران الماضي، استجابة لطلب القادة العسكريين الذين استولوا على السلطة في انقلاب عام 2020، والذين اتهموا قواتها بـ”تأجيج التوترات المجتمعيّة”.
وكانت فرنسا قد أعلنت في أغسطس/آب 2022، انسحاب آخر جنودها من باماكو بعد تواجدها في البلد الإفريقي دام تسعة أعوام، وذلك على خلفية توتر علاقاتها مع المجلس العسكري الحاكم في البلاد.
مشاكل داخلية
الخبير الأمني قال إن دول الساحل “تعاني من أزمة بنيوية عميقة ناتجة عن هشاشة الدولة الوطنية منذ الاستقلال، حيث وُلدت هذه الدول بحدود استعمارية لا تعكس الامتدادات القبلية والعرقية، ما أنتج بلدانا تجد صعوبة في تحقيق الانسجام الداخلي”.
وأوضح أن “تفشي الفساد وضعف الحكم أديا إلى تعطيل التنمية وتراجع ثقة المواطن في الدولة، بينما عمقت التدخلات الأجنبية المتضاربة الصراع عبر تحويل هذه البلدان إلى ساحات تنافس دولي بين فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، ما أدى إلى مزيد من إضعاف المؤسسات بدل دعمها”.
وبحسب تقرير مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية (غير حكومي) صدر في مارس/آذار 2025، ظلت منطقة الساحل “المسرح الأكثر فتكا في القارة لعام 2024، وللعام الرابع على التوالي، بسبب عنف الجماعات المتشددة”.
وأضاف التقرير أن التقديرات تشير إلى أن عدد القتلى المرتبط بـ”العنف المتشدد” في منطقة الساحل بلغ نحو 10 آلاف و400 شخص في عام 2024، ما يمثل 55 بالمائة من إجمالي الوفيات ذات الصلة في القارة.
مصادر القوة
ويرى الطيار أن الجماعات النشطة بالمنطقة “تستمد قوتها من شبكة واسعة من مصادر التمويل تشمل الفديات الناتجة عن عمليات الاختطاف، والضرائب التي تفرض على السكان، والتجارة غير الشرعية في الذهب والمخدرات والوقود”.
وأوضح أن “الفديات تعد من أهم المصادر المالية للجماعات، إذ تدر عليها ملايين الدولارات سنويا، تمكّنها من شراء الأسلحة واستقطاب المقاتلين وشراء ولاء زعماء المجتمعات المحلية”.
كما تعتمد الجماعات على “تحالفات محلية مع بعض القبائل التي تشعر بالتهميش أو التي تبحث عن حماية في ظل غياب الدولة”، بحسب الطيار.
وأوضح الخبير الأمني أن هذه التنظيمات “تتقن أساليب حرب العصابات، فتشن هجمات مباغتة وكمائن بدل المواجهة المباشرة، ما يضعف قدرة الجيوش التقليدية على مواجهتها”.
كما تسيطر هذه الجماعات كذلك على طرق التهريب العابرة للصحراء، خاصة تهريب مواد الكوكايين والبنزين والمواد الغدائية وقطع الغيار، الأمر الذي يمكنها من تمويل عملياتها ويمنحها نفوذا واسعا، موضحا أنها “تستفيد من بيئة اجتماعية متوترة تغذيها النزاعات العرقية، ما يجعل بعض الفئات ترى في هذه الجماعات قوة بديلة عن الدولة لحماية مصالحها”.
وإلى جانب ذلك، تعتمد على ارتباطها الأيديولوجي واللوجستي بتنظيمات عالمية مثل “القاعدة” و”داعش”، وتستفيد من خبرة مقاتلين قادمين من ليبيا وتشاد، لافتا إلى أن “الجغرافيا الصحراوية الواسعة والحدود المفتوحة تمنحها حرية حركة استثنائية، يصعب على أي جيش تقليدي الحد منها، خاصة مع عجز دول الساحل في تأمين حدودها”.
انقلابات متتالية
وقال الخبير الأمني إن “الجماعات الإرهابية تحصل على أسلحتها عبر قنوات متعددة تشمل نهب مخازن الجيوش خلال الهجمات أو عقب الانقلابات”، موضحا أن “المخازن التي تعاني من ضعف المراقبة ويتم المتاجرة بها بسبب انتشار الفساد، تعد مصدرا آخر للسلاح، إضافة إلى تدفق الأسلحة القادمة من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي سنة 2011”.
وشهدت مالي انقلابا عسكريا في أغسطس/آب 2020 أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، ثم انقلاب مايو/أيار 2021 ضد الحكومة الانتقالية.
في 30 سبتمبر/كانون الأول 2022 قاد النقيب إبراهيم تراوري، انقلابا عسكريا أطاح بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا، بدعوى “الفشل في التعامل مع تمرد جماعات إسلامية”.
وفي النيجر، احتجز الحرس الرئاسي، في 26 يوليو/حزيران 2023، الرئيس محمد بازوم، وأعلن قائد الحرس الجنرال عبدالرحمن تشياني، نفسه قائدا للمجلس العسكري الجديد.
مستقبل الجماعات بالمنطقة
واعتبر الطيار أن “مستقبل الجماعات الإرهابية في الساحل مرشح لمزيد من التعقيد”، موضحا أن خروج القوات الفرنسية والأممية من مالي أدى إلى “خلخلة ميزان القوى، ما سمح لهذه التنظيمات بتعزيز حضورها بشكل كبير في الشمال والوسط، وسط عجز الحكومة الانتقالية عن بسط سيطرتها”.
وبشأن بوركينا فاسو، قال الطيار “ما تزال مساحة نصف البلاد تقريبا خارج السيطرة الكاملة للسلطة المركزية”، مردفا أن “تراجع الدعم الغربي في النيجر بعد انقلاب 2023، دفع الجماعات إلى توسيع هجماتها بالبلاد، خصوصا على الحدود مع مالي وبنين”.
واستدرك قائلا “هناك صراعات داخلية بين هذه التنظيمات، وتنافس واقتتال بين تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى من جهة، ونصرة الإسلام والمسلمين التي أعلنت ولاءها للقاعدة من جهة أخرى، ما قد يضعفها تدريجيا ويحد من قدرتها على التوسع اللامحدود”.
وفي 17 سبتمبر/أيلول 2023، وقعت مالي والنيجر وبوركينا فاسو اتفاقا أسس تحالف دول الساحل الثلاث، مع إنشاء “هيكلية للدفاع المشترك والمساعدة الاقتصادية المتبادلة”.
ومؤخرا، أعلنت دول الساحل الثلاث تفعيل القوة الموحدة لمحاربة الجريمة المنظمة والإرهاب، وسط تخوفات من ضعف المبادرة في تحقيق الاستقرار، في ظل تحذيرات أممية من ارتفاع وتيرة النازحين بالمنطقة.
