لبنان يغرق والسياسيون فيه يتشاجرون حول «جنس الملائكة». تكرُّ المآسي على هذا البلد، ويرفض السياسيون الأنانيون المتحجرون تفاديها. وفي حين أن انفجار «نيترات الأمونيوم» الذي هز بيروت ودمر نصفها في الرابع من الشهر الماضي صدم لبنان والعالم، فإن تلك المأساة كان يمكن تفاديها لو تمتعت حكومات لبنان بالكفاءة والنزاهة والشرف. كان الخلل الوظيفي للدولة اللبنانية واضحاً للعيان. حتى الآن لا أحد يعرف لماذا وكيف وقعت الكارثة. جاء محققون دوليون لمعرفة كيف سمح لمخزون ضخم من المواد شديدة الانفجار بالبقاء في قلب العاصمة، رغم النداءات العاجلة المستغيثة من البعض لإزالته. عاش أهالي بيروت سبع سنوات، وناموا فوق قنبلة شبه نووية. حمل أبناء بيروت أشلاءهم وتظاهروا ليقولوا للمؤسسة السياسية القائمة إنهم لا يثقون بها ولا ينتظرون إجابات مباشرة، وبالطبع لا ينتظرون أي مساءلة حقيقية. ربما لأول مرة أراد الضحايا أن يبلغوا القتلة أنهم قتلة، وأن أياديهم ملطخة بالدماء وأن قلوبهم سوداء.
تدمير بيروت جزء من أسباب الثورة التي قامت في «17 تشرين» وفرقتها السلطة الفاسدة. لسنوات فشلت الحكومات اللبنانية في ضمان توفير أبسط الخدمات العامة: مياه شرب نظيفة، وكهرباء، أو التخلص من القمامة. وقد ينتهي وباء «كورونا» ولا يتم التخلص من القمامة في لبنان. ضغط اللبنانيون من أجل التغيير مع احتجاجات عام 2019، لكن المؤسسة السياسية الفاسدة تجاهلت هذه الاحتجاجات لصالح الحفاظ على التوازن الطائفي وشبكات المحسوبية الواسعة.
التجربة اليومية التي يعيشها اللبنانيون، كل اللبنانيين، حتى الملتبس عليهم خداع زعيمهم ويظلون «يصرخون»: «بالروح والدم نفديك يا…»، وحتى قبل الكارثة التي حلت بهم في 4 أغسطس (آب) الماضي، أوضحت مدى أزمة الحكم في البلاد. ومع تأثر نحو نصف بيروت بشكل مباشر، ووصول تفشي وباء «كورونا» إلى مستويات جديدة؛ حيث تكافح مرافق الرعاية الصحية التي تضررت بسبب انفجار «نيترات الأمونيوم» لمواكبة ذلك، تمثل أعطال البنية التحتية الحالية في لبنان حالة طوارئ صحية عامة، سيحتاج المجتمع الدولي، إذا تحنن وإذا وصل السياسيون اللبنانيون إلى معرفة جنس الملائكة، إلى وضعها في قلب برنامجه.
الكهرباء قضية، والقمامة قضية، والطرقات وشقُّها قضية، والفقر قضية، والجوع قاتل، والسرقات المقوننة جريمة… أما المياه، فإنها وفيرة؛ لكنها آسنة. والمياه ستكون قضية الشرق الأوسط قريباً جداً.
لا يوجد مورد آخر يلخص الرهانات الإنسانية في بيروت ولبنان وكل أنحاء الشرق الأوسط، سوى المياه النظيفة، ليس فقط في سياق وباء «كورونا» الآن؛ بل أيضاً للاستقرار الاجتماعي والسياسي للمنطقة.
رغم أن لبنان يتمتع ببعض أفضل مصادر المياه في المنطقة، فإن المشكلة أن أزمة المياه التي تعاني منها البلاد منذ سنوات طويلة، تعني أن مئات الآلاف من سكان بيروت لا تتوفر لديهم سوى مياه الحنفيات ولبضع ساعات كل يوم. وحتى عندما تصل إلى الحنفيات، فإنها غير آمنة للشرب، ورغم تأكيدات «شركة مياه بيروت وجبل لبنان» التي تديرها الدولة، التي قالت قبل عامين إن مياه الحنفيات آمنة ومتوافقة مع المعايير الدولية، فإن الدراسات المستقلة تروي قصصاً مختلفة؛ إذ إن مياه الحنفيات في لبنان جاءت عام 2017 في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الملوثات البلاستيكية، كما وجد البنك الدولي الذي كان يشارك في مشروع «سد بسري» وانسحب منه مؤخراً، أن مياه حنفيات المنازل في لبنان غير صالحة للشرب وتحتاج إلى إعادة تصفيتها، وحسب البنك الدولي؛ فإن 20 في المائة من السكان اللبنانيين غير موصولين بشبكة المياه العامة على الإطلاق، وإن الربع فقط من الموصولين تصل إليهم المياه يومياً.
ولأن غسل اليدين بانتظام من أهم تدابير الصحة العامة لمكافحة فيروس «كورونا»، فإن أوجه التصور هذه تعني أن نظام المياه الفاشل في لبنان يعرض الصحة العامة للخطر الآن أكثر من أي وقت سابق.
يذكر أن الوصول إلى المياه والنظافة أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة إلى 1.5 مليون لاجئ سوري يعيشون في لبنان، وهذا يشكل أخطاراً إضافية على الصحة العامة في كل لبنان.
لبنان يتمتع بنعمة وجود المياه. ولحسن الحظ، ووفقاً لمعايير الشرق الأوسط، يعدّ لبنان محظوظاً نسبياً؛ لأن الأسباب الجذرية لأزمة المياه فيه تعكس أسباب النقص الأخرى في القطاع العام، ويمكن إذا جرى إصلاح سوء الإدارة في الحكومات، والإطار التنظيمي غير الفعال، ثم القضاء على الفساد، والمحسوبية، والآبار والوصلات غير القانونية التي تعوق توصيل المياه… إذا وقع الإصلاح في كل هذا، عبر حكومة فعالة وشفافة، فإن المياه لن تعود صعبة المنال في لبنان، خصوصاً أنها متوفرة.
لبنان محظوظ من هذه الناحية لوفرة المياه فيه، ولا يمكن قول الشيء نفسه عن أجزاء أخرى من المنطقة، حيث أثبتت ندرة المياه أنها دافع للنزوح والاضطرابات المدنية والصراع في نهاية المطاف. على سبيل المثال، الحرب في سوريا، سبقها جفاف كبير من عام 2006 حتى عام 2009، مما أدى إلى نزوح جماعي من المناطق الريفية إلى المدن، وبقي كثيرون عاطلين عن العمل.
وتقول التقارير إن ثلثي سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يقطنون في مناطق تفتقر إلى المياه المتجددة غير الكافية، ومع النمو السريع لسكان المناطق الحضرية وتغير المناخ، فإنهما يؤديان إلى تفاقم الضغط على الموارد المحدودة.
وكان عيسى كالينتاري، وزير الزراعة الإيراني السابق، تنبأ بأن استنفاد منسوب المياه الجوفية في إيران، قد يجبر 50 مليون إيراني على هجرة البلاد، وتؤكد الصور الدرامية للمسطحات المائية الجافة، مثل بحيرة أورميا ونهر الزياندة، سوء إدارة الحكومات الإيرانية الواضح. كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعدّ مسؤولة عن ثلثي تلويث المياه في العالم بسبب محطات تحلية المياه.
ويقول لي مهندس اختصاصي في المياه: «قد يكون لدى منطقة الشرق الأوسط ككل موارد مائية؛ إنما يستنزفها تغير المناخ بشكل أكبر، إلا إن هناك طرقاً لضمان قدرة هذه البلدان على تلبية احتياجاتها المائية من دون صراع داخلي أو خارجي». ويضيف أن «نزع الطابع السياسي عن نقاط الوصول إلى المياه الرئيسية أمر ضروري»، ويعطي مثلاً على ذلك التعاون عبر «خطوط القتال لإعادة تأهيل جزئي لسد (طبقة) على نهر الفرات شمال سوريا بعد تحريره من تنظيم (داعش)، لكن أبناء القرى في المنطقة يتهمون الآن تركيا؛ موطن نبع النهر الذي يوفر معظم مياه سوريا، بقطع تدفق المياه. وبالمثل؛ فإن الحكومة الإسرائيلية متهمة بتقييد المياه في الأراضي الفلسطينية».
تحاول المنظمات الإنسانية العاملة في الشرق الأوسط ضمان الوصول إلى المياه النظيفة، لا سيما في المناطق المتأثرة بالنزاعات المسلحة. لكن الحكومات هي التي تحتاج إلى وضع استراتيجيات شاملة للحفاظ على أمن هذا المورد الحيوي وإدارته.
بدأنا ببيروت ونعود إليها… المياه النظيفة والموثوقة أحد المطالب الكثيرة التي يطالب بها سكان بيروت المنكوبون الذين يعرفون أن الافتقار إلى المياه النظيفة يشكل عقبة على الطريق الطويلة والبطيئة لإعادة البناء. وهذه حال بقية اللبنانيين، خصوصاً الذين لا تصل إليهم المياه إطلاقاً. لذلك؛ فإذا رغب المانحون الدوليون في مساعدة لبنان على التعافي، فإن أقسى الشروط عليهم أن يضعوها على قادة البلاد في شأن الحاجة إلى إدارة شفافة وفعالة للمياه. إن نظافة إدارة تعكس نظافتها بتوفير مياه نظيفة للبنانيين قد تنعكس على بنى تحتية أخرى كثيرة، وهذه إحدى الطرق لإحداث تأثير دائم يلبي طموحات الشعب اللبناني الذي دمرته طموحات سياسييه وطمعهم. ومن المؤكد أن كثيراً من اللبنانيين لن يترددوا في استبدال مياه نظيفة بزعمائهم… ثم لا ننسى أن النظافة من الإيمان.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”