اخترنا لكم

زيارات بابا الفاتيكان وإفراغ خزانات الصدام

محمود الورواري


حظيت زيارة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، باهتمام الكثيرين، ومعظم الراصدين اعتبروها زيارة رمزية لقيادة دينية وفقط.

وهذا تبسيط مخل لهذه الزيارة وما سبقها من زيارات أخرى له .

من الصعب فهم قيمة هذه الزيارة بمعزل عن وضعها في الإطار الزمني الذي يعكس مواقف الفاتيكان والكنيسة الأم تجاه المنطقة العربية بمسيحييها ومسلميها، لذا علينا الإشارة إلى مجموعة من التواريخ المهمة في مسيرة الفاتيكان والكنيسة تجاه المنطقة وتجاه الإسلام كدين سماوي خاتم للديانات والرسالات كافة . 

  حتى تاريخ الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1965، لم يكن الفاتيكان يعترف بالإسلام كديانة سماوية، وعاش مرحلة التطرف تجاه الإسلام حتى تم توقيع وثيقة اعتبرت مرحلة تاريخية فاصلة في علاقة الفاتيكان ببقية الأديان، وهي الوثيقة التي سُميت “في حاضرات أيامنا”. 

  وفيها بدأ الحديث عن الحوار المسيحي مع بقية الديانات الأخرى، وتمت الإشارة إلى الدين الإسلامي عبر هذا المقطع “نقدر للمسلمين أنهم يعبدون رباً واحداً ونقدر صيامهم وصلاتهم وزكاتهم”. أما فيما يتعلق بالحوار فقد أشارت الوثيقة إلى أن الله قد هدم كل الانقسامات بين بني البشر، فلا يوجد سبب لأي تفرقة . 

  لم يكن الأمر سلساً وسهلاً بعد هذا التاريخ، فقد شاب العلاقة كثير من الارتباك وظل عنصر الصراع محتدماً، حتى وصلنا إلى حقبة التسعينيات، وهي الحقبة التي شهدت نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وسيطرة أمريكا وتفردها بحكم العالم . في هذه الحقبة ظهرت نظرية الصدام والصراع خصوصاً بين الحضارات والثقافات 

وتجلى ذلك واضحاً في أفكار “صاموئيل هانتجنتنون”، نظرية الصراع تلك أعادت مرة أخرى الدين إلى حلبة الخلاف بين الأمم بدلاً من أن يكون نقاط تلاقٍ، كأن تلك الوثيقة التي وقعت في منتصف الستينيات دفنت في التسعينيات، حيث تمت شرعنة الصراع عبر ما قاله هانتجنتنون وفوكوياما وآخرون، فقد ركز هانتجنتنون على أن “العالم منقسم إلى حضارات وعامل التقسيم هو الهوية الثقافية”، ووقتها اختلف مع تلميذه “فوكوياما” الذي رأى أن العالم يمكن أن تحكمه ثقافة واحدة ونموذج واحد هو الليبرالية الأمريكية. ويؤكد أن الهدف الأهم هو البحث عن مبررات لاستخدام القوة الأمريكية للقيام بدورها في العالم، وأن الخطر على أمريكا هو أن تفقد دور الهيمنة الفعلي.

  نتج عن نظرية الصدام والصراع الكثير من المآسي، ضاعت دول وتحطمت شعوب مثل العراق وأفغانستان وما زالت آثار الدمار باقية. كان الدين جزءاً من الصراع وقتها، وأطلق بوش الابن مرة أخرى كلمة “الحروب المقدسة” التي أعادت الذاكرة الإسلامية إلى كابوس الحروب الصليبية، وتم وصم المسلمين والإسلام بالإرهاب .عاشت المنطقة العقود الثلاثة وهي فقط تدافع عن نفسها من تهمة الإرهاب، حتى حدثت متغيرات مهمة سواء على المستوى السياسي وعلى المستوى الفكري والديني أيضاً .تغير الحكام في أمريكا ومعهم تغيرت السياسة، تراجع منظرو الصدام ومات التاريخ عن أفكارهم كما فعل فوكوياما وآخرون . 

  وصلنا إلى محطة فارقة في 2017، حينما زار البابا فرنسيس، مصر وشارك في مؤتمر السلام بالأزهر، وأكد وقتها أن الحوار المسيحي الإسلامي هو الطريق لمواجهة التشدد، بعدها بعامين كان العالم كله أمام متغير إيجابي آخر اكتمل بزيارة البابا إلى أبوظبي في فبراير 2019، وهناك وقع مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر وثيقة “الأخوة الإنسانية”، التي كرّست قيم التسامح والحوار والعدل وقبول الآخر، وانتقلت إلى أهمية العلاقة بين الشرق الذي نحن فيه والغرب الذي هم فيه، ليس بينهما خلاف، بل بينهما تكامل . 

  ظلت مفاعيل وثيقة “الأخوة الإنسانية” تؤدي دورها وتفاعلها داخل المحافل الدولية والمؤسسات التعليمية الكبرى وتحولت إلى منهج تفكير يسعى إلى خلق جيل سوي بعيد عن الصراع والصدام، ثم وصلنا إلى المحطة الحالية وهي زيارة البابا للعراق، في ظل ظروف وباء كورونا وحالة الحصار المفروض على الناس خوفا من الجائحة. زيارة يقوم به الغرب إلى الشرق، الكنيسة الأم إلى مسيحيي الشرق، تقوم حضارة بزيارة حضارة أخرى، لتعيد تصحيح المفاهيم المتعلقة بوجود الصراع كمسلمات وبديهيات، إلى حقيقة التوافق والتعايش . 

  زيارة البابا إلى العراق تُرصد من كل الجهات؛ سياسية وفكرية ودينية طبعاً، لكن الأعمق من يرصدها ضمن سياق الصراع الفكري والديني، باعتبارها قفزة إلى الأمام يصعب العودة بعدها إلى الخلف. الزمن يثبت أنه يتغير وأن الأفكار السامة القديمة تموت لكن الأهم من موتها هو إعلان موتها. تلك الزيارات يمكن تناولها باعتبارها إعلان وفاة أفكار الصدام والصراع السابقين، حتى لو كان في إطارها الديني والفكري . 

  نعرف أن السياسة والسياسيين هم أصحاب القرار والفصل في حركة الدول والشعوب، لكن هؤلاء السياسيين لا يمكن أن يستخدموا العنف والصدام إلا إذا وجدوا خزاناً يغرفون منه وهو خزان المفكرين وخزان الدين، وبالتالي إفراغ هذا الخزان من أي شرعية للعنف والصدام، يجعل السياسي المريض بالعنف والصراع محرجاً إذا فعل بدون غطاء شرعي ديني فكري. وهنا تكون تلك العلاقات الودودة بين الأديان حالة حقيقية لإفراغ خزانات العنف . 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى