من خلال وسائل الإعلام الموجهة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها، بدأت تظهر موجة عاتية من الشعوبية الجديدة التي تستهدف العرب والعروبة، وتعمل بكل قوة على تبخيس العرب حقهم، والتشكيك في هويتهم وانتمائهم، وتشويه صورتهم الثقافية وحضارتهم، وتسعى إلى حصرهم في جغرافيا بعينها، لا تتجاوز شبه الجزيرة العربية، واستبعاد ما عداها من قاعدة الانتماء العربي، مقابل تلميع صورة الشعوب والأمم الأخرى وخاصة الفرس والأتراك.
وظهرت خلال السنوات الماضية، وخاصة في زحمة الأحداث التي عرفتها المنطقة العام 2011، محاولات لفصل شمال أفريقيا عن المنطقة العربية وقضاياها والتحديات التي تواجهها، بزعم أن عربه ليسوا عربا، وأن جيناتهم غير عربية وفق نتائج دراسات غير موثوق بها، وتم الاشتغال على ذلك عبر الخطابات العنصرية التي تبين لاحقا أنها تستهدف بالأساس دولا بعينها، بسبب مواقف حكوماتها وأنظمتها من قوى الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان.
وقد شارك ناشطون منفلتون من الجزيرة العربية في بث مشاعر الكراهية من خلال تسجيلات فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، من باب الرد على أصوات مغاربية ذات توجهات قومية، بسبب مواقفها المتشنجة وخاصة منها الداعمة لإيران، وللأسف فإن هناك من كان يتصيد تلك الفيديوهات، ونقلها من خانة أنها اجتهادات شخصية لبعض المنفلتين، إلى خانة أخرى، وهي أنها رأي سياسي يعبر عن مواقف دول، لتتشكل ظاهرة العداء للعروبة ليس فقط من قبل مناوئيها العقائديين، وإنما كذلك ممن يفترض أنهم صانعون للرأي العام، لتنطلق الحملات المشبوهة ضد العرب والعروبة.
وقد تزامنت حملة التقليل من شأن العروبة مع حملات تفضيل الأتراك عبر الدعاية المباشرة وغير المباشرة، وخاصة من خلال وسائل الإعلام والدراما المدبلجة، وإظهار الجنس الطوراني على أنه جنس متفوق سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا، وإظهار نظامه على أنه خادم الإسلام والمسلمين والمدافع عن فلسطين، والمتصدي للأميركان والأوروبيين، رغم أن كل ذلك ليس سوى أوهام يراد لها أن تتحول إلى حقائق في أذهان العوامّ.
ولعل من ينظر إلى المشهد الليبي مثلا، يكتشف عمق الشعوبية التي باتت صهوة قوى الإسلام السياسي لخدمة مشروعها تحت عباءة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذلك من خلال الجهد اليومي المبذول للإساءة إلى القبائل العربية البدوية رغم أنها تمثل أغلبية الشعب الليبي، ونعتها بأسوأ النعوت، والتشكيك في وعيها ووطنيتها وقدرتها على مواكبة العصر والدفع بأبنائها لصدارة الحكم، واستهداف الجيش الوطني من ورائها، باعتباره يتكون من أبناء تلك القبائل، في حين يتم تقديم الميليشيات الخارجة عن القانون داخل مدن كطرابلس ومصراتة والزاوية على أساس أنها عنوان التمدن والتحضر والقدرة القتالية، خصوصا وأن بين صفوفها من وصفهم أردوغان بأنهم أتراك ليبيا المتفوقون.
وقد اتجه إخوان ليبيا، وتونس، ومصر، والجزائر وغيرها إلى ركوب موجة تفضيل الأتراك على العرب، بانحيازهم المطلق لسياسات أردوغان، واندماجهم في مشروعهم الوهمي لنقل مركز قيادة الإسلام السني إلى إسطنبول، وعودتهم للتاريخ لتبرير الاحتلال العثماني لدول المنطقة، وتصويره على أنه تحرير كما فعل التونسي راشد الغنوشي والليبي علي الصلابي، وتلميع صورة الغزاة الأتراك، من باب فسح المجال للتدخل التركي في صورته الجديدة التي يشكلها أردوغان.
ومقابل ذلك، يتزعم الإخوان حملات العداء ضد العرب وخاصة في دول كالسعودية والإمارات والبحرين والأردن، إضافة إلى مصر، كونها تمثل حلفا معاديا لمشروع الإسلام السياسي وللدور الأردوغاني الذي يتبنوه ويدافعون عنه، سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو غيرها، مثلما سبق لهم أن تحالفوا مع الفرس بعد ثورة الخميني ضد العراق، وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال مجلاتهم الصادرة في تلك الفترة وخاصة “الدعوة” و”الاعتصام” و”المختار الإسلامي”.
كانت الشعوبية قد ظهرت في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، واستمرت طوال العصر الأموي، ثم قويت واتسعت خلال العصر العباسي بسبب استجلاب الموالي وتشريكهم في الحكم، وجاء في القاموس المحيط “والشعوبي بالضم محتقر أمر العرب وهم الشعوب”. وعرفها القرطبي على أنها حركة “تبغض العرب وتفضل العجم”.
ومما ورد في رسالة “فخر السودان على البيضان” للجاحظ “إن الشعوبية طالت بقية الأمم، كالأندلسيين والزنج من أهل أفريقيا، واجتمعوا على العداء للعرب والحطّ من شأنهم”. وعرفت الموسوعة البريطانية الشعوبية بأنها كل اتجاه مناوئ للعروبة.
وقد لعب الإسلام السياسي على وتر الشعوبية لضرب مقومات الهوية القومية، وجعل الدين وحدة العمل المشترك بين الناس لاعتماده في السيطرة عليهم، وقد كان الصفويون من أول من سعى إلى ذلك في بدايات القرن السادس عشر، وهو ما تحدث عنه المفكر الإيراني علي شريعتي، عندما قال إن الحركة الصفوية “وبغية ترسيخ أفكارها وأهدافها في ضمائر الناس وعجنها مع عقائدهم وإيمانهم، عمدت إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها وجرّها إلى داخل بيت النبي، إمعانا في التضليل”.
تمخضت عن ذلك المسعى حركة شعوبية شيعية، مستغلة التشيع لكي تضفي على الشعوبية طابعا روحيا ساخنا ومسحة قداسة دينية، ولم يكن ذلك الهدف الذكي متيسرا إلا عبر تحويل الدين الإسلامي وشخصية محمد وعلي إلى مذهب عنصري وشخصيات فاشية، تؤمن “بأفضلية التراب والدم الإيراني والفارسي منه على وجه الخصوص”. ولعل الإسلام السياسي الشيعي استعاد خلال السنوات الماضية هذا التوجه الصفوي عبر التبعية المطلقة لإيران ونظام الملالي، وخاصة من خلال محاولات طمس عروبة العراق بعد عام 2003، لكن شيعة العراق كانوا قادرين على مواجهة محاولات اجتثاثهم من هويتهم العربية، وأثبتوا أنهم أكبر من مؤامرات الشعوبيين الجدد.
إن الإسلام السياسي الحالي، وهو يتزعم الشعوبية الجديدة التي تحتقر العرب وتمجد الأتراك، هو امتداد لما سبقه عبر التاريخ من محاولات نزع التأثير العرقي الإيجابي، واستبداله بالتركيز على الجانب الديني، لاستعماله في السيطرة على النفسية العامة للناس.
الإسلاميون، وعلى رأسهم الإخوان، يكفرون الأيديولوجية القومية من منطلقاتها السياسية، ويحاولون التقليل من قيمة جانبها الثقافي، طالما أنه لا يخدم أهدافهم، ويتجاوزونها إلى مشروع عابر للأعراق والقوميات كما عابر للأوطان.
عن “العرب” اللندنية