في ظل التأييد الدولي والإقليمي الواسع لمعاهدة السلام الإماراتية – الإسرائيلية، خرجت أصوات عربية وإقليمية معبرة عن رفضها للمعاهدة، بل جعلت بعض الأنظمة منها شماعة للتعبير عن مكنونات أيديولوجيته التوسعية ولاسيما تركيا، إذ خصصت وسائل الإعلام التابعة لهذه الأطراف تغطيات إعلامية واسعة، متحدثة بلغة خشبية، معتمدة على خطاب خارج الزمن، فاتحة صندوق الصمود بالشعارات الرنانة، مستغلة شعارات ومقدسات دينية، محرضة على دولة الإمارات العربية المتحدة. والسؤال هنا، كيف يمكن النظر إلى هذا الخطاب؟
في الواقع، لا يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد لفهم خلفيات هذا الخطاب ودوافع أصحابه، ولعل أول ما يبادر إلى الذهن، هو السياق الزمني للخطاب، إذ من يسمع مفرداته، يعتقد أن الزمن ما زال واقفا عند لحظة لاءات الخرطوم الثلاث ( لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بإسرائيل )، بلغة تشبه الشعر والشعارات، كما كان الحال خلال التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، وكذلك في أثناء التوقيع على اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994، دون أن ينظر أصحاب هذا الخطاب إلى التحولات التي جرت خلال 72 عاما من عمر القضية الفلسطينية، وما جرى من تطورات ومتغيرات وتحولات غيرت من المعادلات على أرض الواقع، وفرضت على الجميع وقائع لا بد من استخلاص دروسها، والتعامل معها بعقلانية ووعي من أجل المستقبل.
السمة الثانية لخطاب معارضي معاهدة السلام الإماراتية – الإسرائيلية، هي افتقادها إلى القراءة الموضوعية والواقعية، وغياب مقاربة عملية تنسجم مع العصر لإيجاد حل منطقي مقبول للقضية الفلسطينية، وبسبب كل ذلك، خسر الفلسطينيون خلال المراحل المختلفة فرصا كثيرة، فما كان متاحا عام 1948 تم فقده في عام 1967، وما تم خسارته في عام 1967 لم يعد ممكنا في يومنا الحالي، وما هو متوفر اليوم قد لا يكون متاحا بعد عقد من الزمن أو حتى سنوات قليلة، وهكذا يبدو التاريخ السابق هو تاريخ من تراكم الفشل دون أن يقدم أصحاب الخطاب الخشبي رؤية حقيقية تنقذ القضية الفلسطينية وتؤسس لسلام منشود، فيما في كل مرحلة يفقد الفلسطينيون والعرب قدراتهم على وقف الخسائر التي تلحق بهم وبالقضية الفلسطينية.
السمة الثالثة لخطاب معارضي المعاهدة، هو الأيديولوجية التي تشكل بوصلتهم في مقاربة السياسة، وهي أيديولوجيات تنطلق من كليات قومية ودينية، تحكم بعقلية شمولية وترفض الآخر بهوياته المتنوعة وبالتعدد السياسي على مشاربه المختلفة، وهو ما يبقي الصراع مستمرا، ثمنه المزيد من الدماء وهدر الأرواح والأموال، وكأن لا خيار أخر سوى الموت، في وقت يتطور فيه العالم كل لحظة، ويقدم هذا التطور في كل يوم جديد خيارات جديدة للعيش والتعايش.
السمة الرابعة لخطاب معارضي المعاهدة ولاسيما بعض الدول الإقليمية هو النفاق، فتركيا التي قالت أن المعاهدة طعنة للقضية الفلسطينية، هي أكثر دولة إسلامية على علاقة ممتازة مع إسرائيل منذ تأسيسها، وهو ما يؤكد أن موقفها الرافض للمعاهدة، لا ينبع من الحرص على القضية الفلسطينية بقدر ما ينبع من خوفها على خسارة مكتسبات علاقاتها بإسرائيل وعلى كافة المستويات، ومن أن تؤسس المعاهدة لمصالح عربية إقليمية على المستوى الاستراتيجي، وبما يؤدي كل ذلك إلى الحد من استغلال تركيا للقضية الفلسطينية، كما أن إيران التي لا تتوانى عن المجاهرة بعداء إسرائيل وإطلاق خطابات نارية ضدها، إلى درجة الحديث عن قدرتها على إزالة إسرائيل من الوجود خلال ساعات، ترى أن خطابها هذا سيندثر إن لم يكن اندثر بفعل التطورات السياسية العاصفة، وموازين القوة، والعوامل الاقتصادية ودورها في العلاقات الدولية، وبالتالي من هنا تبرز أهمية صنع السلام، وهذا ما يسجل للإمارات بخطوتها الشجاعة، عندما قررت أن تنسجم مع العصر بواقعية، وتفهم مقتضياته المتسارعة، وأبعاده الاقتصادية والاستراتيجية، وأن تنخرط فيه بحثا عن المستقبل، ومثل هذا النهج كفيل بتحريك المياه الراكدة في معركة السلام من أجل القضية الفلسطينية رغم الخطاب الخشبي السابق لأصحابها، فما فعلته الإمارات هو إعادة الأمل إلى عملية السلام بين الدول العربية وإسرائيل بعد أن استفردت الأخيرة بالفلسطينيين، وكادت تقضي على إمكانية حل الدولتين من خلال الاستيطان وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية، لتأتي المعاهدة الإماراتية – الإسرائيلية وتقول إن ثمة فرصة للحل موجودة في الأفق إن توفرت الحكمة والإرادة والرؤية .. وهي كلها مفردات ضرورية لا بد منها في طريق التطلع إلى المستقبل، ومن دونها فإن الخطابات الخشبية لن تراكم سوى الفشل، لطالما أن الخطاب يبقى خطابا دون أي خطوة عملية نحو الحل والأمل، وهو ما يجب أن يدركه الفلسطينيون جيدا تجنبا لخسارة فرصة أخرى، خاصة وأن خيار السلام أصعب على إسرائيل من خيار الحرب والاستمرار في الاستيطان.
نقلا عن العين الإخبارية