اخترنا لكم

لبنان.. من الإحباط السياسي إلى الوهن


حالةُ الوهن التي تعيشها الطبقة السياسية في لبنان يجسدها العجز الذي أصاب مؤسسات الحكم فيه.

الشلل عنوان ينسحب على جميع مرافقه. برهنت الاستحقاقات الدستورية في كل مرحلة من مراحلها على تجذر ظاهرة الاستلاب الناجمة عن الارتهان لمشاريع مناقضة لتطلعات اللبنانيين، بعضها مشاريع داخلية تختبئ وراء مقولة التصدي لمشروع خارجي، لكنها في الوقت ذاته عجزت عن أن تتخطى حدود المراوحة في المكان، وأخفقت في إصدار نسخة معدّلة أو بديلة لما تواجه، فظلت حبيسة دائرتها المغلقة وطروحاتها الضيقة، وبعضها الآخر مشاريع خارجية تسوّق لمرتكزاتها وغاياتها أطرافٌ تتماهى مع المشروع الخارجي الذي تتبناه، وتسعى لتحقيق مصالح الطبقة التي تروج له، حتى وإن تناقضت مع بقية التيارات الأخرى ومع تطلعات كثير من مؤيديها في أغلب الأحيان.

في كلا المشروعين هناك خاسر وضحية، هما الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، وهناك رابح مرحلي هم الطبقة السياسية والنخبة التي تخطط وتنفذ متطلبات ومقتضيات البقاء والاستمرار.

طرفا المشروعين كلاهما يستثمر داخليا في التناقضات الحاكمة بينهما، لكنهما يتناغمان عن بُعد في أهدافهما العليا المتمثلة في البقاء على رأس السلطة، كل حسب موقعه وتياره.

اجترح الإنسان اللبناني المقهور سبلاً عديدة للتعبير عن وجعه متعدد الوجوه، الاقتصادي والسياسي والوطني، وحاول في مسعاه ضبط عقارب الساعة اللبنانية على توقيت “وطن”. فجّر ثورته التشرينية العابرة للطوائف والمناطق بأمل التغيير ووقف الانحدار. غالَبَ إحباطه في جميع محاولاته، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه السياسي المعلن ولا حتى المُضمَر.

اعتقد كثير من “التشرينيين” أن الانتخابات النيابية ستكون بمنزلة النافذة، التي ستمنحهم فرصة العمل والتغيير من داخل مؤسسات السلطة، وأهمها البرلمان.. انخرطوا في اللعبة وحازوا عددا من المقاعد.. وفي أول امتحان برلماني للاقتراع على اختيار رئيس للجمهورية وفق المُهَل الدستورية اكتشفوا عن قرب أن الإرادة المخلصة وحدها لا توصل إلى الأهداف السامية، خاصة في وجود طبقة سياسية تمرّست في لعبة التعطيل.

عاينوا آليات عرقلة خطوات بعض الكتل النيابية والنواب الأفراد وتحسسوا أساليب منعهم، بطرق قانونية ودستورية وديمقراطية من حيث الشكل، من الوصول إلى أهدافهم المنشودة، فكان الاقتراع بالورقة البيضاء تعبيرا عن قرار مسبق لدى عدد من الكتل النيابية باستمراء المناكفة ونقلها إلى قاعة المجلس النيابي من جانب، وتدليلا على أن الزعامات المزمنة للقوى وللتيارات الحزبية والطائفية والجهوية تفصل بينها صراعات مستحكمة توجه بوصلة كل منها من جانب آخر، دون اكتراث بمسؤوليتهم الوطنية والأخلاقية تجاه البلاد والعباد.

ليست المرة الأولى التي يدخل فيها لبنان “غابة الفراغ” بشغور موقع الرئاسة.. قد يكون الأمر الأكثر إثارة متعلقا بترقب الطبقة السياسية والزعامات اللبنانية حدوث ذلك الشغور في رأس هرم الدولة، وتركه يتدحرج نحو المجهول، وربما قيام البعض بالدفع تجاه حصوله.

الأطراف جميعها تتناوب على إطلاق التحذيرات من مغبة “الفراغ”، وعندما أصبح حقيقة واقعة لجؤوا إلى شحذ أسلحتهم “الديمقراطية” وفعّلوا ذواكرهم “القانونية” وابتكروا طرقا تتناسب مع حساباتهم الكُتلوية على حساب حاضر ومستقبل اللبنانيين ودولتهم ومؤسساتها، التي تقاوم الانهيار الشامل بعد العطب الذي ضرب أجزاء واسعة منها.

تعقيدات الواقع الناشئ بسبب الصراعات المحتدمة بين القوى والتيارات، والتحشيد من قبل البعض، تنذر باحتمالات كثيرة أقلها إطالة أمد الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالتساوق مع عدم وجود كتلة برلمانية بمفردها تمتلك العدد الكافي لحسم مسألة إنهاء حالة الفراغ لصالحها عبر صناديق الاقتراع، علاوة على عدم قدرة بعض الكتل المتحالفة على تأمين النصاب العددي والقانوني القادر على تخطي عملية الاقتراع بنجاح وانتخاب رئيس من بين مرشحيها.

الإحباط طال مختلف وجوه الحياة اللبنانية، لكن أخطر مفاعيله حين يتحول إلى عامل تحريض على مستوى الأفراد والمجتمع بسبب ما يولده من إحساس بالقهر، وعندها يصبح مصدر إلهام لسلوكيات تتناقض مع أبسط القوانين الناظمة للمجتمعات وأمنها واستقرارها.

مثقلةٌ أجندة لبنان واللبنانيين التوّاقين للانعتاق وللاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. أصعب صنوف التحديات الداخلية تلك النابعة من تناقض مقاربات وتوجهات الزعامات السياسية والحزبية والطائفية، حيث تكبل أي نزعة تحررية لدى قواعدهم، وكذلك في صفوف أولئك غير المحازبين لهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى