من الغريب أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يتحرّكا لمواجهة انتهاكات تركيا في بحر إيجة أو شرق البحر المتوسط، أو لمواجهة تدخلاتها العسكرية في ليبيا أو محافظة إدلب السورية.
اندلع الصراع مرة أخرى في بحر إيجة، حيث تواصل تركيا سعيها نحو تحقيق طموحاتها الإقليمية، وممارسة ضغوطها مستغلة أوضاع اللاجئين، وعملياتها العدوانية وغير القانونية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي.
وفي الأسبوع الماضي، وبعد أن اقترح وزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس أن المواجهة المسلحة ممكنة، حذره نظيره التركي خلوصي آكار في مقابلة تلفزيونية قائلا “لا أعتقد أن اليونان تريد خوض حرب مع تركيا”.
غضبت اليونان من العديد من الجرائم التركية، التي تراوحت بين إرسال أنقرة للآلاف من اللاجئين إلى الحدود اليونانية في وقت سابق من السنة الحالية ومواجهاتها في بحر إيجة وانتهاكات الطائرات الحربية التركية لمجالها الجوي.
هذا بالإضافة إلى قرار تركيا إرسال عدة سفن للتنقيب في المياه التابعة لقبرص وتوقيع اتفاقية الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في طرابلس دون اعتبار لدول حوض المتوسّط.
وقال الأستاذ في الكلية البحرية العسكرية في كاليفورنيا ريان جينجراس لموقع “أحوال تركية”، إن صفقة الحدود البحرية تعدّ الضربة الأكثر عدوانية من أي خطوة رأيناها في السنوات الأخيرة.
وأشار إلى أن العلاقات اليونانية التركية ربما لم تكن بهذا التوتر منذ أواخر التسعينات، عندما كانت الدولتان على حافة الحرب حول جزر بحر إيجة المتنازع عليها. وتساءل عما يمكن لليونان أن تفعله للتصدي لهذه الانتهاكات التركية، حيث تبدو أنقرة واثقة من أنها تستطيع مواصلة ممارساتها العدوانية دون أن تدفع أي ثمن مباشر. وهو تصوّر مبني على الأحداث التي تعيشها على أرض الواقع.
في الأسبوع الماضي، نظّمت القوات البحرية التركية تدريبات قبالة الساحل الليبي، مؤكدة خطة أنقرة المصممة لتنفيذ اتفاق الحدود البحرية وبدء الحفر قبالة سواحل ليبيا في الأشهر القليلة المقبلة، وهو أمر تعتبره أثينا استفزازا جديدا.
قال جينجراس “من الواضح أن أنقرة تستغل هذا الاتفاق باعتباره الأمر الذي سيثبت جهودها الاستكشافية قانونيا. قد لا تحصل على حقوقها كاملة، ولكنها ستحقق فوزا مهما كانت طبيعة تنازلاتها“.
يرى جينجراس أن عدوانية تركيا المتزايدة في شرق البحر المتوسط تتماشى مع نهج سياستها الخارجية في استراتيجية “الوطن الأزرق”، التي تزعم الهيمنة التركية على بحر إيجة وشرق البحر المتوسط والبحر الأسود. كما يتضمن هذا النهج فكرة أن الغرب (وخاصة الولايات المتحدة) يدعم اليونان في سعيها لتحطيم طموحاتها في المنطقة.
هندس أميرال متقاعد يدعى جيم غوردينيز مصطلح “الوطن الأزرق”. وكان قد اعتقل سنة 2011 بسبب صلاته المزعومة بشبكة “إرغنكون”. وكان اعتقاله جزءا من محاكمة مؤامرة الانقلاب العسكري المعروفة باسم “خطة المطرقة”، والتي كانت مفتاحا لجهود حكومة حزب العدالة والتنمية لإنهاء الوصاية العسكرية في تركيا.
أدين غوردينيز وحكم عليه بالسجن لمدة 18 عاما، قبل تبرئته وإطلاق سراحه في 2015. وبعد الانقلاب الفاشل في 2016، ظهر اسمه مرة أخرى كصوت قومي معاد للغرب في وسائل الإعلام التركية تزامنا مع بدء الحكومة في الترويج لرؤية قومية تتماشى مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف.
وقال جينجراس إن العديد من الضباط العسكريين السابقين المتحالفين مع سياسة “الوطن الأزرق” يشتركون في وجهة نظر معادية للغرب، وألقوا باللوم على ما يسمى بالجبهة الأطلسية مدّعين تسببها في العديد من مشاكل تركيا.
وأضاف جينجراس، الذي ألّف العديد من الكتب بما في ذلك “الفجر الأبدي: تركيا في عصر أتاتورك”، “غالبا ما يتبنى هؤلاء الأفراد الذين يتخذون هذا الموقف رغبة صريحة في التصدي للإمبريالية الأميركية، كما يسمّيها غوردينيز”.
كجزء من هذه الجهود، يحث غوردينيز تركيا على بناء علاقات أعمق مع روسيا والصين، وهو ما قد يفسر شراء أنقرة لأنظمة الدفاع الجوي الروسية أس – 400 في 2019 على الرغم من احتجاجات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وتدعم تركيا وروسيا جانبين متعارضين في الحرب الأهلية الليبية، ولكن تقارب أنقرة المؤقت مع موسكو مع مشروع “ترك ستريم” الذي تم إطلاقه مؤخرا، ووقف إطلاق النار الذي لا يزال ساريا، والدوريات المشتركة الناجحة في محافظة إدلب السورية، واتفاق أس – 400، قد يندرج ضمن نهج “الوطن الأزرق” المناهض للغرب، بالإضافة إلى الانتهاكات شرق البحر المتوسط.
قال جينجراس إن هذه السياسة تحمل تحولا جذريا بنهج أكثر عدوانية وتطرفا تجاه القضايا البحرية. لكنه لا يعتبر النمط المعتمد جديدا، حيث غالبا ما تبنت تركيا موقفا عدوانيا، وخاصة ضد اليونان. ويرى في تحركاتها الأخيرة رغبة في إيصال رسالة واضحة عن حدودها ودفاعاتها ومصالحها القوميّة.
ومن الغريب أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يتحرّكا لمواجهة انتهاكات تركيا في بحر إيجة أو شرق البحر المتوسط، أو لمواجهة تدخلاتها العسكرية في ليبيا أو محافظة إدلب السورية، حيث نزح حوالي مليوني شخص أصبحوا يعيشون في مخيمات على طول الحدود التركية.
كان خبير الهجرة في مركز “ويلفريد مارتنيز” للدراسات الأوروبية، فيت نوفوتني، يأمل في أن يساعد الاتحاد الأوروبي في إنشاء منطقة حظر جوي فوق إدلب وتشكيل منطقة آمنة تعترف بها الأمم المتحدة، مع بعض القوات الأوروبية على الأرض.
وأخبر موقع “أحوال تركية” أن “أي عملية عسكرية تبدو غير واردة، لسوء الحظ. حتى وإن كانت منطقة حظر جوي لا تتطلّب وجود أي قوات على الأرض، لأن الأوروبيين ينفرون من توظيف القوة الشديدة”.
ويرى أن الاعتداءات التركية، البريّة والبحرية، ستستمر في غياب رد أوروبي كبير. وقال إنه “دون مشاركة أكثر نشاطا من الاتحاد الأوروبي في تركيا وسوريا والبحر المتوسط والشرق الأوسط، سنشهد استمرار الانتهاكات القائمة”.
خلال الشهر الماضي، أصدرت اليونان وقبرص وفرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة بيانا مشتركا أدانت فيه اعتداءات تركيا على شرق البحر المتوسط. ودعت فرنسا إلى عقد اجتماع لحلف شمال الأطلسي لمناقشة تورط تركيا العدواني في ليبيا.
وقال جينجراس إن التحالفات والأصوات التي بدأت في الظهور لمواجهة العدوان التركي لم يكن لها تأثير يذكر.
قد يكون الوقت متأخرا جدا. فبفضل الدعم التركي، أحرزت حكومة الوفاق الوطني تقدما كبيرا في الأسابيع الأخيرة، ويبدو أن الحرب في ليبيا تقترب من نهايتها. وأعلنت الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي بدء محادثات وقف إطلاق النار الجديدة.
يوم الثلاثاء، التقى وزير الخارجية التركي ووزير المالية مع رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني فايز السراج بهدف ضمان عودة الشركات التركية لاستئناف عملها بعد الحرب، حسب عقودها المعلّقة التي تصل قيمتها إلى 25 مليار دولار، ولتأمين اتفاق الحدود البحرية.
سيحقق أي انتصار لحكومة الوفاق الوطني هذه المكافآت، وهو ما سيشجع تركيا على مواصلة توسيع نهجها العدواني تحت سياسة “الوطن الأزرق”، مما قد يدفع الجارتين المتقاتلين إلى حافة الحرب.
نقلا عن العرب