اخترنا لكم

الأزمة الأوكرانية ووسائل الإعلام الأمريكية


وقت كتابة هذه السطور كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلُص لتوِّه من مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتز.

هذا المؤتمر الذي توقف فيه “بوتين” أكثر من مرة عند جزئية عدم رغبة روسيا في دخول حرب، لهذا فإنها “مضت في طريق طلب الضمانات الأمنية من أمريكا والناتو”.

في المؤتمر عينه، بدا “بوتين” حريصا على عدم دخول روسيا حربا مع القارة الأوروبية، الجار الأقرب، والمرشحة لتكون الصديق الأقرب، لا سيما إذا انتصرت العقلية الأوراسية، وهي يمكن بالفعل أن تكون في طريقها لهذا عبر التعاون الألماني-الروسي بداية، والروسي-الفرنسي تاليا، مع بقية حبّات العقد الأوروبي.

جرت وقائع هذا المؤتمر عشية 16 فبراير/شباط، الموعد الذي روّجت له العديد من وسائل الإعلام الأمريكية بوصفه الساعة الحادية عشرة قبل إقدام القيصر الروسي على عبور أوكرانيا بدبّاباته ومدرعاته، أي إعلان الحرب وبداية عزف أوركسترا النار والدمار مرة أخرى.

شيء ما في توجهات الإعلام الأمريكي يستدعي الشك، بل القلق والحيرة، جراء الإصرار المتواصل على التلاعب بالعقول الأمريكية أول الأمر، والأوروبية تاليا، ويبقى السؤال: لماذا هذا التوجه وعلى ذلك النحو؟

قبل الجواب، ربما تتعين الإشارة إلى أن المشهد الأمريكي لم يتوقف عند مدارات الميديا الأمريكية بأنواعها المختلفة والمتباينة، إذ تجاوز ذلك إلى إرسال نحو 3000 جندي إلى بولندا ورومانيا، وأكثر من 14 طائرة محملة بآلاف الأطنان من الذخيرة، منها على سبيل المثال صواريخ ستينغر شديدة البأس، والتي كانت سببا في هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، في ثمانينيات القرن الماضي، عطفا على صواريخ “إنلاو” البريطانية، التي زخمت بها لندن كييف، لمواجهة مدرعات موسكو ودبابات الكرملين.

ما تقدَّم يعني وبعبارة واضحة شفافة، أن هناك من يسعى لرسم صورة استباقية لحرب روسية في أوكرانيا، وما أمهر الآلة الإعلامية الأمريكية في رسم صورة لك كما لا تريد، إنْ لم تبادر أنت برسم صورتك كما تحب وترغب، كما أنهم على درجة عالية من المهارة والحنكة في تفعيل النظرية المعروفة باسم “التنبؤات التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها”، بمعنى أنهم يفترضون الأمر ويروّجون له على أنه صحيح، حتى يصدق الناس حول العالم أنه صحيح بالفعل.

من بين القضايا الكارثية في الداخل الأمريكي اليوم، تطفو إشكالية “الديمقراطية التي تُباع على الأرصفة”، وهو تعبير شاع وذاع في الداخل الأمريكي في العقود الأخيرة، فيما معناه ومبناه يدور حول قدرة رؤوس الأموال في مجتمع نيوليبرالي رأسمالي حر، إلى درجة التوحش، ودون أي مقدرة على الضبط والربط، على توجيه دفة السياسة والإعلام وبقية مناحي الحياة لمن يدفع لأعلى سعر.

خذ إليك ما يجري على صعيد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكيف أن أموال المتبرعين تكاد تحدد حظوظ الفائزين، وكذا الخاسرين في أي موقعة انتخابية رئاسية، وقد أخفقت المحكمة العليا في وضع محددات أو معايير لمسألة التبرعات، ما يجعل من المؤسسة السياسية الحزبية الأمريكية رهينة للشركات الكبرى وللصناعات الثقيلة، ناهيك ببقية جماعات الضغط.

هل الإعلام الأمريكي خارج عن سيطرة صناعة الإعلانات والتبرعات وملايين الدولارات، التي تصنع جزءا من الأسطورة الأمريكية حول العالم؟

أحد كبار العقليات الأمريكية، التي توقفت عند إشكالية التلاعب بعقول الأمريكيين عبر القنوات المتلفزة، والإذاعات الموجهة، ناهيك بوسائط الاتصال الحديثة، البروفيسور جوزيف إس ناي جونيور، والذي حلّل في كتابه الشهير عن “القوة الناعمة الأمريكية”، كيف يجري غسْل الأدمغة، لا سيما منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولماذا تسعى العقول التي تقف وراء الكاميرات في تشكيل أعداء وهميين، أو تكبير صورة بعض من خلقتهم الأدوات الأمريكية الما ورائية، بهدف دفع الجميع في طريق تحقيق مصالح براغماتية أمريكية ضيقة، تخصم على المدى الطويل من صورة أمريكا كمدينة فوق جبل.

في الأزمة الأوكرانية، يبدو أننا أمام محاولة لعسكرة بعض من كُبريات وسائل الإعلام الأمريكي، ولا نعمِّم، لا سيما تلك المرتبطة بإعلانات كبريات شركات الأسلحة.

القصة دون تطويل أو اختصار، تدور في إطار محاولة بعض أجنحة الدولة الأمريكية العميقة، ومنها المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والذي بدأ في الشعور بالقلق منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أغسطس الماضي.

تبلغ ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية هذا العام 770 مليار دولار، وهي واحدة من أكبر الموازنات منذ زمن الحرب الباردة، ومع هذا الرقم الكبير والخطير يبقى السؤال المصيري: “هل هذا المجمع الصناعي العسكري الأمريكي في حاجة إلى تخليق حروب واقعية وافتراضية دفعة واحدة، بهدف الإبقاء على عجلة تلك المؤسسات الصناعية ذات الطبيعة العسكرية دائرة وغير حائرة بحثا عن مجالات لتصريف منتوجاتها؟

ما يجري هو استئجار للمؤسسة السياسية والإعلامية الأمريكية، والفاعل هنا هو من حذر منه الرئيس آيزنهاور في خطاب الوداع في يناير 1961، ذاك المجمع الصناعي العسكري، الذي يسعى وراء “نفوذ لا مبرر له” في “كل مدينة وكل مبنى تشريعي وكل مكتب عائد إلى الحكومة، ما قد يؤدي إلى كارثة تنبع من بروز قوة في غير محلها”.

الأزمة الأوكرانية تعيد تسليط الضوء على تحذيرات آيزنهاور، وربما من غير مقدرة على استنقاذ المشهد من براثن من يتنبؤون ذاتيا، ولو كانت تنبؤاتهم منحولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى