اخترنا لكم

فلسفة الدين.. حاجة أم ترف؟


إن طرح الانعكاسات “الدينفلسفية” الماسة بعصب حياة الأفراد، يتمخض بصورة واضحة عن المهام الرئيسة التي تقوم على تنفيذها فلسفة الدين بدقة واجتهاد،

وبخاصة أنها تعد أحد الفروع الفلسفية الضليعة بالتفكيك الدلالي والسبر المفاهيمي في منظومة الاعتقاد الديني، من خلال طرح صورة شاملة وذات رؤية بعيدة، ممحصة لثنائية التجربة الإنسانية، قبل الدين وبعده، وإبراز ملامح الاختلاف أو التحول والأسباب الدافعة لذلك.

ومن ذلك نلمح أن الفلسفة المتعلقة بالدين لا يمكن اعتبارها جزءاً منه، بل ربما شكَّلت “منظاراً” خارجياً محايداً، يترقّب حركته على امتداد خط الزمان الإنساني، سيما أنها لا تتناول الديانة الإسلامية دون المسيحية أو المسيحية دون اليهودية، بل هي مقاربة منهجية تسعى من خلال “العين الفلسفية” إلى مراقبة تضاريس الأديان والخروج بنتاجات محكمة تروي ظمأ الإنسان المعرفي، النابع من فطرته القائمة على الاستفسار والتساؤل. فالإنسان، وباعتباره الكائن الذي تميز بالعقل، لا يمكنه العيش مقتاتاً على “فتات الإرث”، دون مروره بعملية الوصول للمعرفة، انتهاءً بالإيمان بها وتكوين منظومته القيمية.

ومن جهة أخرى، فإن العملية الفلسفية المرتبطة بطرح الدين على طاولة التفلسف، تتميز بنظرتها العامة التي تصطحب ما تدرسه خارج إطار خصوصيته، فتجرده بالانتقال مما هو خاص إلى ما هو عام، ومن ذلك تنساب رؤية الفيلسوف “بول تيلِتش”، الذي ربط فلسفة الدين بالمعاني، والتعلق اللامشروط بها، وهي سمة غلبت على فلسفته ذات الطابع اللامشروط أو ما تسميه “الهم الأقصى”، وهو الله.

وفي ذلك جانب منهجي هام يقوم على الابتعاد عن الغوص في إطلاق الأحكام المعيارية، أو التوجه للفكر عبر نافذة التراكم المسبق. ففلسفة الدين لا تأبه للانحيازات، ولا تقبل بالعنصرية الدينية تجاه أي معتقد أو توجه إيماني، وذلك بموازاة «حرية المنهج»، فلا حدود يقف عندها، ولا بوصلة يتحرك من خلالها، باستثناء حضرة “العقلية الفلسفية”.

ويمكننا القول بأن فلسفة الدين، هي وسيلة إشباع النفس الإنسانية، والحفاظ عليها من الانحرافات الناجمة عن هشاشة المعرفة أو ضعف التكوين الذي يراعي الواقع ولا يتنازل عن فهم إمكانياته أو إمكانيات الواقع الحافل بالمعنى، وهو الذي لا يمكن الهرب منه وهو “اللا مشروط”.

واللا مشروطية الخاصة بالمعنى حية في كل فعل روحي، سواء من الناحية النظرية أو الجمالية أو العملية، فـ”الدين الأصيل هو التوجه نحو هذه الفحوى أو هذا الكُنه، إنّه التوجه إلى “اللا مشروط”.

وإدراك الشكل والمحتوى والكنه ينمُ عن توجه مزدوج للوعي الديني، أي نحو الأشكال المشروطة للمعنى وتداخلاتها البينية من جهة، وتوجهها نحو المعنى الواقع اللا مشروط وهو أساس الكُنه”، كما يقول تيليش في تساؤله عن ماهية الدين.

إن التفكير الفلسفي في الدين يمثل انعكاساً واقعياً للنداء الإنساني، واعترافاً بأنه حان الوقت للوقوف على أطلال السجون المفاهيمية، وبأنه جاء زمن التحرر من جمود المواقف الاعتقادية، وفك قيد الديباجات الكلامية، وإعادة النظر في فحوى المدونات الفقهية.. وهو الأمر الذي يتطلب العديد من القناعات المتجهة نحو البناء التوعوي الفلسفي الديني، بعيداً عن سطوة تيار “الإدمان على تكفير التفكير”.

وبالنظر لامتداد الخدمة الفلسفية للدين، نجد أنها تحمل معها العديد من الأبعاد الروحية من خلال النظر في التجليات أياً كانت إيجابيتها أو سلبيتها. كما لا تكتفي بتناول وتنقيح المجريات القائمة في عماد الواقع الإنساني، بل تنادي بما يجب أن يكون عليه ذلك الواقع.

ومن ذلك فإن الدين مادة لا بد من دراستها، كغيرها من الظواهر البشرية التي تدرس من خلال وضعها تحت مجهر العلوم الإنسانية وعدسة الفلسفة. وفي تمحيص وظيفة الفلسفة كدراسة للدين، نتساءل: هل يمكن تصنيفها ضمن مظاهر الترف والتباهي، أم هي ضرورة ملحة وحاجة إنسانية؟

إن “النضال الفلسفي” داخل المنظومة الدينية، وتطويع المناهج الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية، كأدوات دراسة، لا توصل بالضرورة إلى بقعة ضوء على نواح سلبية بعيدة عن مصلحة الإنسان، بل هي على العكس تماماً تعمل على الوصول لصورة تناغمية مفعمة بالحياة، ناقلةً بني البشر لبراحة تفكير تنبثق من الحياة الدينية البهية، واصلةً بـ”خيوط من معرفة” بينها وبين واقعه المعاصر الحداثي والتقني، متمكنةً من تلبية نداءاته الروحية وإيلائه “مدداً” أخلاقياً ناضجاً يؤمن بمستلزمات كل زمان ويوفر مقولاته.

نقلا عن الاتحاد الإماراتية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى