لم تهدأ التعليقات الساخرة على ما ذهب إليه سياسيون ومثقفون لبنانيون في قولهم إن التعاطي مع المطالب الصريحة التي وضعها الرئيس ماكرون أمام الجماعة الحاكمة في بيروت كشرط للمساعدة والإنقاذ، هو إذعان وهتك للسيادة الوطنية والقرار المستقل، مستحضرين حكاياتهم الممجوجة عن مثالب الاستعمار ومطامعه، وعن أن القبول بما يمليه الرئيس الفرنسي هو بمثابة تفريط في المصالح الوطنية وفتح الأبواب على مداها لعودة مناخات الانتداب والتبعية والارتهان، كذا… وبالتتابع لم تهدأ التهكمات وعبارات الاستخفاف تجاه مسؤولين سوريين توسلوا شعار «السيادة الوطنية» خلال الزيارة الأخيرة لوفد روسي برئاسة وزير الخارجية لافروف إلى دمشق، للتنصل من الوعد الذي أعطاه رعاة المفاوضات السورية، بمنح الأولوية لإنجاز أعمال اللجنة الدستورية قبل الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في العام المقبل، لتغدو تلك الانتخابات أمراً محسوماً كمسألة «سيادية» لا يحق لأحد التدخل فيها، وليتم تعويم اللجنة الدستورية وترك مهمتها مفتوحة على الزمن.
أساس هذه التهكمات والتعليقات الساخرة، لا يتعلق بمحتوى وصحة ما قيل ويقال، بل بالأحقية التي يمنحها هؤلاء المدعون لأنفسهم في الحديث عن السيادة الوطنية والوصاية عليها، فبأي عين، في المثال اللبناني، يمكن لمثقفي الممانعة ومروجي سياسات «حزب الله» النظر إلى السيادة الوطنية، بينما يعلن حزبهم، جهاراً ونهاراً، بأنه امتداد مذهبي لولاية الفقيه، وأن مرجعيته ليست الوطن والدولة اللبنانية بل ما يمليه المرشد العام الإيراني من توجهات وقرارات؟ وكيف يسوّغون هذه السيادة في ظل دوام الشحن المذهبي والتعبئة الطائفية لـ«حزب الله»، وهم يدركون أن إشاعة الشعارات المذهبية تفضي لتهميش فكرة الانتماء الوطني والهوية الجامعة، وهما ركيزتا بناء سيادة وطنية؟ وأيضاً كيف ينسجم دفاعهم عن السيادة الوطنية مع التدخل العسكري السافر لميليشيا «حزب الله» في سوريا والعراق واليمن دعماً لمخططات طهران ومشاريع نفوذها؟! أليس لشعوب تلك البلدان سيادتها الوطنية أيضاً؟ أم أن إيران وميليشياتها، هم دون غيرهم، يشكلون في عرف هؤلاء المدعين جزءاً لا يتجزأ من السيادة الوطنية؟ ثم أي معنى يبقى لشعار السيادة الوطنية حين يبدي «حزب الله» إصراراً فجاً على التفرد بقرار الحرب والسلم، ولا يقيم أدنى اعتبار لمصالح اللبنانيين ولما خلفته حروبه من أذى وأضرار؟!
في المقلب السوري يبدو أن التهكم والسخرية، كأنهما أضعف الإيمان في الرد على مسؤولي النظام ومثقفيه الذين لا يزالون يتبجحون بالسيادة الوطنية من دون أن يرف لهم جفن، خجلاً مما فعلوه بهذه السيادة وبالقرار المستقل، حين لم يردعهم رادع، لا أخلاقياً ولا وطنياً، في استجرار وربما استجداء كل دعم أجنبي للدفاع عن سلطتهم وإدامة سيطرتهم وللفتك والتنكيل بالسوريين البسطاء، قتلاً واعتقالاً وتهجيراً وتشريداً، فهل سأل هؤلاء المزايدون أنفسهم عن «السيادة الوطنية»، حين أباح النظام كل شيء، أمام حكومة طهران ومختلف ميليشياته الهمجية ثم أمام موسكو وأسلحتها الفتاكة؟ وتالياً كيف يصون نظامهم سيادتهم الوطنية عندما يعطي حليفيه، إيران وروسيا، ما طاب لهما من المواقع الاستراتيجية ومن ثروات السوريين وموارد بلدهم؟ وألم يغدُ أمراً مفهوماً تندر البعض بأن هذين الحليفين قد حظيا من ثروات البلاد وقدراتها الاقتصادية ما هو أكثر قيمة بكثير مما ناله الاستعمار الفرنسي، وحتى ربما مما يتطلع لنيله؟ ثم لماذا لا تنبس شفاههم بأي حرف عن «السيادة الوطنية»، اللهم سوى تكرار العبارة البليدة عن «الرد في المكان والزمان المناسبين» وهم يشاهدون استباحة إسرائيل لأجواء البلاد، وتواتر قصفها لمواقع نظامهم الاستراتيجية ولتجمعات الميليشيا الإيرانية في الأراضي السورية؟!
في المقابل، أين يمكن أن تجد معاني السيادة الوطنية عند لبنانيين يتضورون جوعاً وقد كواهم الفساد وسرق الطغاة جنى أعمارهم، أو عند من باتوا في العراء بعد أن دمر انفجار مرفأ بيروت عشرات الألوف من أبنيتهم ومنازلهم؟ أو عند من يتعرضون لمختلف أساليب القمع والقهر لقاء معارضتهم لسلطة لا تعنيها «السيادة الوطنية» إلا بقدر استمرارها في الحكم وجعله مرتعاً لفسادها وامتيازاتها؟ وأيضاً كيف تغدو «السيادة الوطنية» عند سوريين منكوبين وهم يرون كيف يعيث سلاح مدعي الوصاية على الوطن، فتكاً وتنكيلاً بأهلهم وأطفالهم وتدميراً لممتلكاتهم، أو عند ملايين اللاجئين والنازحين الذين يعانون الأمرين بعد تشريدهم في شتى بقاع الأرض؟ أو عند عشرات الآلاف ممن لا يزالون يبحثون عن أبنائهم المعتقلين أو المغيبين قسرياً في سجون أصحاب السيادة الوطنية؟ ونسأل أخيراً، هل ثمة عاقل بين ثلة هؤلاء المزايدين يتجرأ ويبحث عن الأسباب التي حدت بملايين اللبنانيين والسوريين إلى الترحم على أيام الاستعمار كعنوان للخلاص، أو عن الدوافع التي حدت بغالبيتهم للكفر بالوطن، والمجاهرة بأن وطنهم بات اليوم حيث تتوفر حريتهم وحقوقهم وتصان كراماتهم؟!
وبالنتيجة، فإن السيادة الوطنية ليست مجرد عواطف وشعارات وأناشيد حماسية، بل رابطة إنسانية تستمد قوتها من شعور البشر بالعدل والمساواة ومن ثقتهم بأن حقوقهم حيث يعيشون مصونة ولا يستطيع أحد أياً كان التعدي عليها، ولنقل هي حصيلة لمجتمع معافى من القهر والفساد والتمييز، ونجح في حفز مختلف مكوناته لتجاوز انتماءاتها المتخلفة، الطائفية والمذهبية، لمصلحة انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن.
صحيح أن العلاقات العالمية تستند إلى مبدأ السيادة الوطنية وتحترم حق كل دولة في تقرير مصيرها والتحكم بأراضيها وثرواتها ومواردها، مما أشاع وكرس العبارة الدبلوماسية الشهيرة عن «احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية»، لكن الصحيح أيضاً أن البلدان التي انضمت إلى الأمم المتحدة ووقعت على المواثيق المشتركة، وخاصة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وملحقاتها قد تنازلت طوعاً وبكامل إرادتها عن جزء من سيادتها إلى المجتمع الدولي، وأخضعت نفسها لقيود والتزامات يفترض ألا تخرج عليها، ولرقابة أممية حول مدى احترامها لحقوق الناس وحرياتهم وأرواحهم، مما يعني أن التمثل الصائب والأصيل للسيادة الوطنية، يرتبط بسيادة شعوب حرة وقادرة على تقرير مصيرها، ومنعتقة من الشعارات الجوفاء والأطروحات الآيديولوجية المتزمتة، ولها حقها السيادي في اللجوء للمنظومة الأممية لمحاسبة أنظمة استبداد تلاعبت واستقوت بمفهوم السيادة الوطنية للتحايل على الالتزامات الدولية، ولتسويغ إطلاق يدها، عنفاً وتدميراً، على مداها لقهر مواطنيها وإخضاعهم.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”