اخترنا لكم

الدروب الشائكة نحو الحل الليبي – الليبي

خطار أبو دياب


تستمر المراوحة في المكان على خط سرت – الجفرة وتتأكد استحالة الحسم العسكري نتيجة طبيعة الصراع وتعقيدات الأزمة المتفاقمة تحت عناوين التوازنات الدولية والمصالح الخارجية. ولذلك من أجل إيجاد اختراق للمأزق كان لا بد من العودة إلى الحل الليبي – الليبي.

وفي هذا الإطار شجعت واشنطن تحت إشراف الأمم المتحدة انعقاد محادثات برلمانية ليبية – ليبية استضافتها حديثا مدينة بوزنيقة بالمملكة المغربية، بهدف توحيد المؤسسات السيادية في البلاد، وذلك للمرة الأولى منذ التصعيد العسكري في ربيع 2014. وفي نفس الوقت شهدت مدينة مونترو بسويسرا اجتماعا تشاوريا بين الأطراف الليبية – بما فيها ممثلون عن سيف الإسلام القذافي – توافق خلاله المشاركون على إجراء انتخابات خلال 18 شهرا والبدء بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية.

ومن حيث المبدأ ستنعقد في جنيف أواخر هذا الشهر اجتماعات لاختيار سلطة جديدة، والتي من المتوقع أن تتسارع وتيرتها ولاسيما بعد إعلان رئيس حكومة الوفاق فايز السراج عن عزمه مغادرة منصبه في أكتوبر المقبل.

وممّا لا شك فيه يمكن التعويل على هذه التطورات لإنهاء الدوامة الليبية خاصة مع انتقال حركات الاحتجاج الشبابية والاجتماعية من الغرب إلى الشرق، ما يدق أجراس الإنذار أمام القوى المهيمنة والمتحكمة ويعبر عن غضب عميق على الحال التي وصلت إليها البلاد.

بالطبع، كل ذلك لا يعني أننا أمام اختراق كبير لأن تراكم التعقيدات الداخلية والخارجية يجعل الدروب شائكة مع كثرة عدد اللاعبين والمحاور والتجاذبات من أجل كسب السباق إلى ليبيا الغنية بمواردها وصاحبة الموقع الجيواستراتيجي المميز، وعلى حساب شعب ليبيا والدولة الليبية.

في موازاة هذه المناورات الدبلوماسية التي تعطي الفرصة للحل السياسي الليبي، كان التطور الأبرز خارجيا تفجر الصراعات في شرق المتوسط، بين تركيا من جهة واليونان وفرنسا من جهة أخرى، ما نقل تسليط الأضواء من ليبيا نحو المبارزة التركية مع اليونان وقبرص، وذلك يشكل عاملا شديد الخطورة بالنسبة إلى مجمل الأمن الإقليمي.

لكن ذلك دفع بواشنطن إلى إدارة الدفة في الملف الليبي، وطلبها زيادة صلاحيات بعثة الأمم المتحدة على أمل تسجيل نقاط تقلص النفوذ الروسي وتقطع الطريق على ما يتم ترويجه لناحية تفاهمات روسية – تركية (شبيهة باتفاقيات أستانة في سوريا)، وينسحب ذلك أيضا على تحجيم أدوار الأطراف الأوروبية وتفادي انقساماتها.

ولا تنفصل مساعي الاختراق الداخلي عن حصيلة التطورات المتسارعة منذ زيادة الانخراط التركي أواخر العام 2019 واتفاق تعيين الحدود البحرية بين أنقرة وحكومة الوفاق، وصولا إلى انسحاب قوات المشير خليفة حفتر من كل الغرب، مما جعل الملف الليبي شديد الحساسية وزاد من خشية واشنطن من بلورة تفاهم روسي – تركي تبعا لمستجدات الميدان إذ تراجع دور الكثير من القوى التي كانت حاضرة في ساحة الصراع العسكري وتحديدا عند تخوم سرت والجفرة.

ونتيجة الضغط الأميركي ومخاطر توسيع الصراع بعد التحرك المصري والدعم الفرنسي، تم بشكل أو بآخر تجميد الوضع بالرغم من تمسك فريق حكومة الوفاق بتغيير ميداني وتطلع تركيا إلى قطف ثمار استثمارها في الهلال النفطي. وأسهم في تكريس المراوحة في ما شهده الغرب الليبي من إشكالات بين قطبي الحكم فايز السراج ووزير داخليته فتحي باشاغا وكذلك من احتجاجات اجتماعية واسعة بسبب يقظة المجتمع المدني وتهالك الخدمات العامة.

وتجدر الإشارة إلى مخاوف من استمرار الجمود السياسي والوضع القائم الذي يحمل عناصر الانفجار نظرا لتوسع تأثيرات الملف الليبي لتطاول مصالح ومواقف عدة دول، وهذا يمكن أن يؤخر أي تقدم أو إيجاد حلول على طاولة التفاوض مع استئناف العملية السياسية، وحتى لا يتم انتظار تطورات في الأوضاع السياسية والعسكرية في ليبيا عندما تتوصل الأطراف إلى اتفاقات بشأن مصالحها في سياق تأثيرات الملف الليبي خارج البلاد.

نجح الجانب الأميركي في إحداث نقلة حوارية نوعية بين ممثلين عن الشرق بقيادة عقيلة صالح وممثلين عن الغرب بقيادة خالد المشري من خلال اجتماعات بوزنيقة مستعينا بعودة المغرب إلى لعب دوره الوسطي كونه البلد الحيادي في النزاعات الليبية، واللافت أن ذلك تزامن مع الخطوات الانفتاحية في مونترو، وسرعان ما أعقب ذلك مسعى فرنسي غير مثمر بعقد اجتماع ثلاثي بين فايز السراج وخليفة حفتر وعقيلة صالح بالرغم من طلب مساعدة ألمانيا وإيطاليا.

وكانت المفاجأة إعلان السراج اعتزامه ترك منصبه و”تسليم مهامه للسلطة التنفيذية القادمة في موعد أقصاه نهاية أكتوبر القادم”. مع تذكيره بأن “حكومته لم تكن تعمل في أجواء طبيعية، إذ كانت تتعرض للمؤامرات الداخلية والخارجية منذ اليوم الأول”.

والتلميح إلى موعد آخر أكتوبر يتناغم مع المباحثات المقررة في جنيف والتي يجب أن يتم خلالها تشكيل السلطة التنفيذية الجديدة. وفي نفس الاتجاه يمكن إدراج مداخلة المشير خليفة حفتر في 18 سبتمبر الجاري، التي شكك فيها بالمبادرات السياسية، لكن إعلانه عن استئناف إنتاج النفط وتوزيعه، ينطوي على تسهيل للأمور واستعداد للعملية السياسية.

وهذه الإشارات الإيجابية داخليا تفاعلت معها القوى الأوروبية المنخرطة في الملف وغالبية القوى الإقليمية المعنية كما يدلل الحراك الفرنسي أو تصريح سيرجي لافروف عن تكثيف الحوار مع تركيا ومصر والمغرب في آن معا. بيد أن الإشارة الأكثر سلبية صدرت عن الجانب التركي عندما أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان، الجمعة 18 سبتمبر الجاري، أن “أنقرة منزعجة من قرار فايز السراج، بالتنحي عن رئاسة حكومة الوفاق الليبية”.

ومن الواضح أن القيادة التركية تفاجأت من عدم قيام السراج الطرابلسي باستشارتها وربما كان بسبب انحياز أنقرة لباشاغا خصمه المصراتي، ولأنه لا يمكن أن يستمر من دون الغطاء الأميركي.

يتضح أن واشنطن تكاد تعلن صفارة النهاية لهذه المرحلة من الحروب الليبية. لكن ذلك لا يعني أن الدروب ممهدة وسالكة إذ يرجح العديد من المتابعين للشأن الليبي، أن تزيد تلك الخطوة التي أقدم عليها السراج، الغموض السياسي في طرابلس وحتى الاقتتال الداخلي بين الفصائل والميليشيات المتنافسة في الائتلاف الذي يهيمن على غرب ليبيا.

ومن دون شك، إن تصفية الحسابات بين طرفي النزاع الرئيسيين، وكذلك داخل المعسكر لا تزال قائمة. في هذا السياق، تصر عدة أطراف في الغرب وعدة لاعبين خارجيين على إبعاد المشير خليفة حفتر والقبول بدور مركزي لعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الموجود في طبرق. أما من ناحية الشرق فقد اتهم المتحدث باسم الجيش، أحمد المسماري، رئيس المجلس الأعلى خالد المشري بالخيانة وخدمة جماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبر أحد أبرز قياداتها الحالية. هكذا يمكن أن تتراكم العقد الداخلية ولكنها قابلة للتذليل بشكل أو بآخر تمهيدا لمسار طويل لإعادة إنتاج السلطة وبناء الدولة.

ومن البديهي أيضا أن الوصول إلى تفاهمات دولية حول شرق المتوسط سيدعم التهدئة في ليبيا، والعكس صحيح، فأي انزلاق في الصراع العسكري بشرق المتوسط سيدفع الأمور في ليبيا، نحو التعقيد والتأزم. ويبقى الأهم أن استئناف المفاوضات الليبية يحظى بدعم دولي وأميركي من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة وهذا في حد ذاته اختراق واعد لإنهاء مأساة طال أمدها.

* نقلا عن “العرب

زر الذهاب إلى الأعلى