الاخواني طارق السويدان: روما وجهة الإخوان
في نهاية العام 2012 قرّر وزير الدفاع الإيطالي الأسبق إيغناسيو دي لا روسّا، المنسّق العام لحزب «شعب الحرية»، الانشقاق عن الحزب الذي كان يتزّعمه سيلفيو برلوسكوني. وعقبه بعد أيام قليلة انشقاق آخر بقيادة جيورجيا ميلوني يضمّ الجناح اليميني الذي كان يجمع الأعضاء السابقين في حزب «الحلف الوطني»، الذي بدوره قام على أنقاض «الحركة الاجتماعية الإيطالية» الفاشية التي كانت تعتبر نفسها الوريثة الشرعية للحزب الفاشي الذي أسسه بنيتو موسوليني.
وقبل انقضاء أسبوع واحد على ذلك الانشقاق المزدوج – الذي تبيّن لاحقاً أنه حصل بتنسيق تام بين الطرفين – قرّر التيّاران المنشقّان تشكيل كتلة برلمانية واحدة تضمّ 10 أعضاء في مجلس الشيوخ، وخوض الانتخابات التشريعية في العام التالي تحت اسم «إخوان إيطاليا»، أو «فراتيلي ديتاليا». وهذا الاسم الذي اختارته ميلوني مقتبس من البيت الأول للنشيد الوطني الإيطالي الذي وُضع أواسط القرن التاسع عشر بعد توحيد إيطاليا على يد جيوزيبي غاريبالدي.
بداية «الإخوان»
في تلك الانتخابات التي فاز بها تحالف الأحزاب اليسارية بقيادة الحزب الديمقراطي بغالبية ساحقة، لم يحصل «إخوان إيطاليا» سوى على 9مقاعد في مجلس الشيوخ و11 مقعداً في مجلس النواب. وبالتالي، بقي لسنوات حزباً ثانوياً على هامش الائتلاف اليميني الذي كان يقوده برلوسكوني قبل أن ينضمّ إليه حزب «الرابطة» (الانفصالي سابقاً) الذي كان نشاطه يقتصر على مقاطعات الشمال، وكان قد أسس أصلاً بهدف المطالبة باستقلالها عن إيطاليا.
وبعدها، في انتخابات العام 2018 فازت حركة «النجوم الخمس» بالمركز الأول، وتلاها حزب «الرابطة» بزعامة ماتّيو سالفيني الطامح إلى قيادة المعسكر اليميني الذي كان لواء زعامته معقوداً لبرلوسكوني منذ سنوات، بينما لم يحصل «إخوان إيطاليا» على أكثر من 4.3 في المائة من الأصوات. وهكذا، ظل لاعباً ثانوياً في المشهد السياسي الذي كان سالفيني يحدد أجندته اليمينية من موقعه وزيراً للداخلية ونائباً لرئيس الحكومة التي ولدت من الائتلاف بين «الرابطة» وحركة «النجوم الخمس»… التي كانت فرضت لرئاستها أستاذ الحقوق جيوزيبي كونتي، رغم عدم انتمائه للحركة، ولا عضويته في البرلمان.
– حكومة ماريو دراغي
عندما سقطت حكومة كونتي الثانية بعد المناورة الفاشلة التي قام بها سالفيني، طارحاً الثقة بالوزارة – التي كان أحد أبرز أعضائها – بهدف فرض إجراء انتخابات مبكرة كانت الاستطلاعات ترجّح فوزه بها، ألقى رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا بكامل ثقله لإقناع الحاكم السابق للمصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي بقبول تشكيل حكومة ائتلافية واسعة. وكان هدف رئيس الجمهورية تحاشي إجراء انتخابات عامة في ذروة جائحة «كوفيد 19» والانقسامات السياسية الحادة التي كانت تنذر بخلافات عميقة بين الأحزاب يمكن أن تحرم إيطاليا من الاستفادة من حصة الأسد التي حصلت عليها من صندوق الإنعاش، الذي كان أقره الاتحاد الأوروبي لمساعدة الدول الأعضاء على النهوض من تداعيات الجائحة.
وعندما فرض دراغي شروطه لتأليف الحكومة الائتلافية بمشاركة جميع أطياف الكتل البرلمانية وتعهدها بتأييد البرنامج الحكومي، وقبلت «الرابطة» الانضمام إلى الوزارة الجديدة والتعهد بألا تعرقل أعمالها، أدركت جيورجيا ميلوني، زعيمة «إخوان إيطاليا» أنها أمام فرصة توسيع قاعدتها الشعبية بين الناقمين الكثيرين على فشل الأحزاب السياسية التقليدية في التوافق على تكليف رئيس للحكومة من داخل البرلمان، واللجوء – للمرة الثالثة على التوالي – إلى اختيار شخصية لم يسبق لها أن خاضت انتخابات أو تولّت مناصب عامة.
– قيادة المعارضة اليمينية
لذا رفضت ميلوني الانضمام إلى الحكومة الائتلافية التي ضمّت جميع الأطياف الممثلة في البرلمان. وبقي حزبها «إخوان إيطاليا» وحده في المعارضة متفرّداً بانتقاد الحكومة، التي حظيت بتأييد واسع في المرحلة الأولى بعد تأليفها، لكنها سرعان ما بدأت شعبيتها تتراجع بفعل التناقضات العميقة والتضارب في مصالح الأحزاب التي تشكّلها.
في موازاة ذلك، كانت شعبية «إخوان إيطاليا» تصعد باطّراد في استطلاعات الرأي، وتتقدّم ميلوني على زعماء الأحزاب الأخرى، وبالأخص، على حساب سالفيني الذي فشل غير مرة في محاولاته إنشاء اتحاد للقوى والأحزاب اليمينية يستثني ميلوني. إذ كان يدرك أنها تشكّل وحدها الخطر الداهم على شعبيته وزعامته للمشهد اليميني المتقدّم بخطى ثابتة للفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة.
أما ميلوني، فبعدما تيقّنت من صعود شعبية حزبها، وتجاوزها «الرابطة» في جميع الاستطلاعات، قررت أن تخوض منفردة الانتخابات البلدية التي أجريت دورتها الأولى يوم الأحد الفائت، رافضة التحالف مع القوى اليمينية الأخرى حتى في المعاقل التي كان مضموناً فيها فوز التحالف. وجاءت النتائج لتؤكد صواب خيار «إخوان إيطاليا» الذي فاز وحده بما يعادل نتائج الأحزاب اليمينية الأخرى مجتمعة. وبالتالي، رسّخ موقعه في صدارة المشهد اليميني، واضعاً جيورجيا ميلوني على أبواب رئاسة الحكومة بعد الانتخابات المقبلة… لتكون أول امرأة تتولاها في تاريخ إيطاليا.
– المزاج الشعبي… وأوكرانيا
تكمن أهمية هذه الانتخابات البلدية التي تجري قبل سنة تقريباً من الانتخابات العامة، في أنها تحدد المزاج السياسي الشعبي، وغالباً ما تطابق نتائجها تلك التي تسفر عنها الانتخابات التشريعية اللاحقة. وفي حين استوعبت كل الأحزاب السياسية أن الفاشيين الجدد بزعامة ميلوني أصبحوا قاب قوسين من رئاسة حكومة الجمهورية التي قامت على أنقاض النظام الفاشي – الذي يحظره الدستور الإيطالي ويمنع الدفاع عنه – يحاول سالفيني الآن تجاهل هذا الواقع الجديد. وهذا، مع أن حزب «إخوان إيطاليا» زادت شعبيته في جميع معاقل الرابطة، ولم يعد مستبعداً انكفاؤه إلى المقاطعات الشمالية، كما تطالب القيادات التقليدية التي كان سالفيني أبعدها بعد تولّيه زعامة الحزب… وقراره التمدد في جميع المناطق الإيطالية.
الواقع أنه بعد هذه الانتخابات، بات هامش المناورة أمام زعيم «الرابطة» محدوداً جداً، ولا سيما أن ميلوني تنشط في الملعب نفسه وبالأدوات ذاتها التي وفّرت لسالفيني شعبيته وصعوده في السنوات المنصرمة… مثل الشعارات المناهضة للهجرة والتنظيمات الإسلامية وحقوق المثليين، ورفض الانصياع لمشيئة المؤسسات الأوروبية والنظام المالي العالمي.
يضاف إلى ما سبق أن ميلوني أصابت في اختيار موقعها من الحرب الروسية الأوكرانية. إذ أيدت موقف الحلفاء الغربيين، ودعت إلى تزويد أوكرانيا بما تحتاجه من الأسلحة لمواجهة الغزو الروسي، في حين يدفع سالفيني ثمن علاقاته الوطيدة مع موسكو، وتصريحاته التي كان يعرب فيها عن إعجابه الشديد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وللعلم، دخل سالفيني مرة مبنى البرلمان الأوروبي وهو يرتدي قميصاً عليه صورة زعيم الكرملين، ولقد ذكّره بها المتظاهرون الذين كانوا يحتجون على زيارته أخيراً أحد مراكز استقبال النازحين الأوكرانيين في بولندا.
ولا شك في أن موقف ميلوني من الحرب الأوكرانية كان الدافع وراء اختيار الحزب الجمهوري الأميركي لها ودعوتها لحضور مهرجانه الانتخابي الأخير وإلقاء كلمة فيه، على حساب سالفيني الذي كان يجهر إعجابه بالرئيس السابق دونالد ترمب وكان قد أعلن دعمه لإعادة انتخابه.
– تساؤلات… وهواجس
في أي حال، السؤال المطروح اليوم في الدوائر الأوروبية التي تراقب بقلق صعود القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة، وتتوجّس من احتمال وصول الفاشيين الجدد إلى الحكم في إيطاليا هو التالي؛ ما هو المنسوب الحقيقي للموروث الفاشي في برنامج «إخوان إيطاليا»… وقدرة هذا الحزب – أو استعداده – على ضرب دعائم المشروع الأوروبي من الداخل في دولة وازنة مثل إيطاليا؟
إذ تواجه المجتمعات الديمقراطية صعوبة متزايدة في التعامل مع الطفرات الفاشية، أو «الفاشية الجديدة»، لأن هذه تتغذّى من التصادم بين الحق في حرية التعبير والحق المشروع أيضاً في أن يحمي المجتمع نفسه من الحركات المتعصبّة والعنيفة التي تهدف، في نهاية المطاف، إلى تقويض النظام الديمقراطي لتسود على أنقاضه.
وفعلاً تشهد بلدان أوروبية كثيرة منذ سنوات «صحوة» لهذه الحركات والتيارات التي تستغلّ الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تنشأ عن الأزمات، مثل الانهيار المالي في العام 2008 وجائحة «كوفيد 19»، وغالباً ما تنخرط في المظاهرات الاحتجاجية متماهية مع مطالبها. جدير بالذكر أن الدستور الإيطالي ينصّ في مادته الـ12 على حظر إعادة بناء الحزب الفاشي، الذي أسسه بنيتو موسوليني عام 1921 ولا يزال إرثه من أبشع الصفحات في التاريخ الإيطالي. وليست هذه المادة الدستورية مجرد «إعلان نيات» يهدف إلى طي صفحة الماضي الفاشي، بل هي وسيلة للدفاع عن النظام الديمقراطي الذي قام في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، تضع خارج إطار الشرعية كل حزب يستخدم العنف، أو يهدد باستخدامه، لتحقيق أهدافه السياسية، كما يمنع استخدام أي شعارات فاشية.
– الفاشية وليدة الأزمات
طبعاً، العالم اليوم يختلف عما كان عليه في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي الذي شهد قيام الحركات الفاشية وازدهارها من «إيطاليا موسوليني» إلى «ألمانيا هتلر» و«إسبانيا فرنكو» و«برتغال سالازار». لكن كثيرين لا ينسون أن تلك الحركات إنما تولّدت من رحم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تشبه إلى حد كبير الظروف الراهنة التي نشأت عن أزمات متلاحقة توّجتها جائحة «كوفيد 19» قبل أن تنشب الحرب في أوكرانيا. وكانت هذه الظروف الأرض الخصبة التي نمت فيها الحركات اليمينية المتطرفة لتصل إلى الحكم وتبدأ بتنفيذ برامجها وخططها العنصرية بتأييد شعبي واسع. ويضاف إلى ذلك أن أزمة الهجرة التي تتعاقب على أوروبا منذ سنوات ساهمت بنسبة كبيرة في صعود شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت هامشية جداً قبلها، وأوصلت بعضها إلى السلطة في حكومات ائتلافية.
«إخوان إيطاليا» يدركون جيداً أن الذي كان ممكناً في أوروبا مطالع القرن الماضي بات اليوم مستحيلاً تسويقه لبلوغ سدّة الحكم في بلدان الاتحاد الأوروبي، الذي تحدد معاهداته شروطاً ملزمة للعمل السياسي واحترام حقوق الإنسان وصلاحيات الأجهزة القضائية. وهو الأمر الذي دفع الحزب اليميني خلال الأشهر الأخيرة إلى الجنوح نحو برنامج معتدل – في الداخل والخارج – عندما تيقّن أنه بات قاب قوسين من قيادة المشهد السياسي اليميني والوصول إلى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات العامة المقبلة. وفي هذا السياق، كان سالفيني قد حاول في الفترة الأخيرة إقصاء «إخوان إيطاليا» عن مشروع لتشكيل تحالف يضمّ الأحزاب والقوى المحافظة، بحجة أنه الحزب الوحيد خارج الحكومة وهو ما يتيح للتحالف اتخاذ مواقف موحّدة من الأداء الحكومي، والاتفاق على أن يتولّى الحزب الذي يفوز بأعلى نسبة في الانتخابات المقبلة رئاسة الحكومة.
غير أن برلوسكوني، الذي ما زال يرفض مجرد التفكير بخلف له، تباطأ في التجاوب مع دعوة سالفيني، فيما كانت شعبية ميلوني تصعد في استطلاعات الرأي، وبخاصة على حساب زعيم «الرابطة»، إلى أن أصبح وجودها حتمياً داخل التحالف، وحظوظها راجحة في قيادته بعد الانتخابات.
ومع جنوح سالفيني نحو مزيد من التطرف لاستعادة شعبيته المتراجعة. كانت ميلوني تميل أكثر إلى الاعتدال مستقطبة مزيداً من الدعم بين أنصار حركة «النجوم الخمس» التي أخذت تتصدّع تحت وطأة الخلافات، والنزاعات بين التيارات الكثيرة داخلها. ثم إن ميلوني تقترب الآن حالياً بثبات من مراكز القرار الاقتصادي والمالي التي لم تشعر أبداً بالارتياح للمواقف العدائية التي كان سالفيني يجهر بها ضد الاتحاد الأوروبي ومؤسساته… التي لا غنى للاقتصاد الإيطالي عن مساعداتها.
رمزية ميلانو الخاصة… في حسابات جيورجيا ميلوني
اختارت جيورجيا ميلوني «تقديم بطاقة التعريف الجديدة» لحزبها في المؤتمر الأخير، الذي عقده مطالع الشهر الفائت، في مدينة ميلانو.
وراء هذا الاختيار رمزية شديدة الوضوح والتحدي، ليس فقط لكونها العاصمة الاقتصادية لإيطاليا. بل هي أيضاً مسقط رأس كل من ماتيو سالفيني وسيلفيو برلوسكوني ومعقلهما السياسي. وفي هذه المدينة سجّلت شعبية «إخوان إيطاليا» صعوداً كبيراً في الفترة الأخيرة. مع أن منبَته كان في روما وجذوره في وسط إيطاليا وجنوبها. وأمام الانهيار المتواصل الذي يعاني منها حزب «فورتسا إيطاليا». الممتنع زعيمه برلوسكوني عن اختيار خلف له رغم تجاوزه الخامسة والثمانين من العمر. والانحدار السريع لـ«الرابطة» وافتقاره لوجهة عقائدية واضحة بعد الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها سالفيني، ظهرت ميلوني وحدها القادرة على قيادة المشهد اليميني. وهي عملياً تقول لحليفيها إنهما إذا كانا يريدان الوصول إلى الحكم عن طريق التحالف، لا بد لهما من مواكبتها… وهي وحدها في موقع القيادة.
لكن المشكلة هنا أن العلاقات تدهورت كثيراً خلال الأشهر المنصرمة بين أطراف التحالف اليميني. وبالأخص، بعد تضارب مواقفهم خلال انتخاب رئيس الجمهورية. وتباعدها إزاء الحرب في أوكرانيا ومواصلة تزويد كييف بالأسلحة. ومن المرجّح أن يتعمّق الخلاف أكثر بعد قرار موسكو استخدام سلاح الغاز الذي يعتمد عليه الاقتصاد الإيطالي بنسبة عالية. ولا سيّما أن «الرابطة» كانت ألمحت مراراً إلى ضرورة وقف مسلسل العقوبات الأوروبية ضد روسيا، بل عرض سالفيني الذهاب إلى موسكو للوساطة.
لذا يسعى برلوسكوني منذ أيام إلى التخفيف من حدة الخلافات داخل التحالف. لأن تماسكه ووحدة صفه وتقديمه لوائح مشتركة خطوة أساسية في الانتخابات المقبلة. بحكم القانون الانتخابي الذي يعتمد نظام الغالبية، والذي يجازي الأحزاب والتحالفات الكبرى على حساب الأحزاب الصغيرة واللوائح المنفردة.
ولأن ميلوني مهتمة بترسيخ تجاوزها لحزب «الرابطة». بقدر ما هي مهتمة بتجاوز الحزب الديمقراطي (أقوى مكونات اليسار). ليصبح «إخوان إيطاليا» الكتلة الأولى في البرلمان. فإنها تسعى منذ فترة إلى إقصاء الجيوب المتطرفة التي ما زالت تحنّ إلى جذورها الفاشية، أو إلى عزلها. وكانت قد قررت للمرة الأولى في تاريخ «الفاشيين الجدد» المشاركة في العيد الوطني الذي تحتفل به إيطاليا في 25 أبريل (نيسان) بمناسبة تحرير البلاد من الفاشية والنازية.