اخترنا لكم

ليبيا ومصالح المستفيدين من ديمومة الصراع

الحبيب الأسود


اليوم مرّ ستون يوما على اتفاق جنيف المبرم من قبل اللجنة العسكرية المشتركة (5 + 5) ولا يزال أمامنا شهر واحد من مهلة الـ90 يوما لإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، ولم نسمع عن جندي أو مرتزق غادر في اتجاه بلاده، لنقول أن هناك تحركا فعليّا نحو الحل، أو أن البعثة الأممية نجحت في فرض إرادة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتنفيذ الاتفاق الذي رعته، واعتبرته إنجازا تاريخيا.

لكن الثابت والمؤكد أن النظام التركي قرر تمديد وجوده العسكري في غرب ليبيا لمدة 18 شهرا أخرى، وداس بذلك على اتفاق جنيف، وأطاح بوعود ستيفاني ويليامز المبعوثة الأممية بالوكالة، وأسقط تفاؤل الأمين العام للمنتظم الأممي أنطونيو غوتيريش تحت أقدام مرتزق سوري في معسكر اليرموك أو سيدي بلال بطرابلس، وعبث بكل تلك البيانات التي رحبت فيها الدول والحكومات بالتوصل إلى الاتفاق النهائي على وقف إطلاق النار.

قلنا في مناسبات عدة، أن التوصيف الأممي والدولي للأزمة الليبية لا ينتج حلا، وأشرنا إلى أن القضية أمنية بالأساس وليست سياسية، وأكدنا أن كل الجهود المبذولة ليست سوى مضيعة للوقت في ظل شرعنة نفوذ العصابات المسلحة وبقاء الميليشيات على ما هي عليه في الغرب الليبي من حضور مسلح وسيطرة مطلقة على الشأنين السياسي والاقتصادي، حيث يرفض أمراء الحرب التخلي عن امتيازاتهم التي حققوها ولا يزالون يحققونها منذ العام 2011، ويرفض الإسلام السياسي الاعتراف بمحدودية حضوره ودوره، فيُستقوى على الشارع بقوة السلاح المنفلت، ويرفض المسؤولون الحكوميون الفاسدون والزعماء الجهويون ولصوص المال العام التخلي عن مصالحهم، متخذين من الميليشيات درعا وسيفا، ثم ها هو أردوغان يستفيد من هذا الوضع ليتبادل المصالح مع تلك الميليشيات، فيدعمها بغطائه العسكري وتدعمه بفرض سلطة الأمر الواقع.

وها نحن الآن في طرابلس أمام حالة عبثية غير مسبوقة: مواجهة مفتوحة بين رئيس المؤسسة الوطنية للنفط ومحافظ المصرف المركزي، وأخرى بين محافظ المصرف المركزي ووزير الداخلية المفوض، وثالثة بين وزير الداخلية ورئيس المجلس الرئاسي، ورابعة بين ميليشيات طرابلس وميليشيات مصراتة، التي تنازعها النفوذ على العاصمة، وخامسة بين الميليشيات ومؤسسة النفط، وهكذا دواليك.

وها نحن أمام رغبة جامحة من السراج للبقاء في منصبه برعاية تركية قطرية، ومعركة يقودها حلفاء أردوغان ضد وزير الداخلية فتحي باشاغا حتى لا يحظى بمنصب رئيس الحكومة الذي يطمح إليه بسبب زيارتيه إلى باريس والقاهرة، وأخرى لضرب أحمد معيتيق ومنعه من التقدم في سلّم الطموح السياسي، ورابعة لإفشال ملتقى الحوار السياسي طالما أنه لا يضع السلطة بكامل مفرداتها بين أيدي الإخوان ومن ورائهم الأتراك.

إن ما حدث منذ أيام، عندما سحب السراج البساط من تحت أقدام باشاغا، بنقل تبعية قوة الردع الخاصة التي يقودها المتشدد السلفي عبدالرؤوف كاره إلى مكتبه وتمكينها من ذمة مالية مستقلة، ومنحها صلاحيات كامل أجهزة وزارة الداخلية، وكذلك من خلال توظيف عناصر إرهابية في مراكز حساسة، كالمجيء بإرهابي داعشي كان يقاتل ضد الجيش في بنغازي وتكليفه بملف تبادل الأسرى وجثث القتلى في إطار مخرجات اتفاق جنيف، يكشف عن وجود مخطط يدور في عقول الأتراك والإخوان وبعض أمراء الحرب.

المخطط هو استغلال الوقت، وغلق منافذ الحل، وانتظار الفرصة للدفع نحو حرب جديدة، يريد أردوغان من خلالها بسط نفوذه على منابع النفط في الوسط والجنوب، والتمكين نهائيا للإخوان من مفاصل الدولة، حتى وإن رفضهم الشعب، مستفيدين من النموذج التونسي ونصائح نظرائهم في حركة النهضة، بأن الأقلية يمكن أن تحكم بتشتيت صفوف الأغلبية والسيطرة على مراكز النفوذ المالي والإداري، اعتمادا على قانون انتخابي ودستور موضوعين على القياس.

إن عودة أحد أبرز أمراء الحرب هيثم التاجوري الأسبوع الماضي في طائرة خاصة إلى طرابلس، بعد أشهر طويلة من الغياب حيث يدير ثرواته الطائلة، وبعد سيل الاتهامات التي كان يتعرض لها، ورجوعه إلى حضن ميليشيا كتيبة ثوار طرابلس، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك تسويات في الإطار الميليشيوي لقطع الطريق أمام أية تسوية سياسية، وأن هناك استعدادات لمعركة الفصل ليس في خط سرت الجفرة فقط وإنما في الجنوب كذلك، وأن الهدف منها هو الدفع بالجيش إلى الشرق، تنفيذا لخطة، تركية – قطرية، تشارك فيها أطراف دولية أخرى، غايتها استبعاد المشير حفتر من المشهد العام، ولا يمانع واضعوها من التقسيم بعد السيطرة على منابع الثروة.

خلال الأشهر الماضية، تبين أن الطرف الوحيد الذي كان جادا في البحث عن حل هو العسكري النظامي الممثل في لجنة (5 + 5)، والذي يضم ضباطا كانوا رفاق سلاح قبل 2011، ويتميزون بالانضباط والحرفية والجدية والروح الوطنية العالية، وقد أكدوا ذلك سواء في اجتماعات جنيف أو غدامس أو سرت، أما الساسة فإن أغلبهم مرتبطون بالمصالح الفئوية والسياسية والأيديولوجية وبالأجندات الخارجية، وبالحسابات المادية وامتيازات الكراسي في بلد ثري، أضحى كل طرف ينظر إليه كغنيمة لا يمكن التفريط فيها، ولا أحد يكتفي بما جمع ونهب ووضع في حساباته بالخارج، حتى أن بعض الفاعلين كانوا واضحين في ملتقى تونس عندما جعلوا من الرشاوى أداة لشراء الأصوات.

إن الصراع القائم منذ عشر سنوات جعل من ليبيا واحدة من أكثر الدول فسادا في العالم، وإذا كانت الدول المستقرة تحارب الفاسدين، فإن السياسة في الدول الفاشلة والضعيفة هي التي تحميهم، خصوصا إذا دخلت أطراف خارجية للعبث فيها كما هو الحال بالنسبة إلى تركيا حاليا، وحتى يستمر الوضع على ما هو عليه، فإنه لا بدّ من الإبقاء على ضعف الدولة وفشلها، طالما أن النفط يجري عبر الأنابيب والأموال تضخ كل يوم لحسابها، ومن الطبيعي أن ذلك يحتاج إلى منع المؤسسات من النهوض لاستعادة دورها، وإلى مواصلة الاعتماد على الميليشيات، ومنع تحقيق المصالحة الوطنية، وبالتالي منع رتق النسيج الاجتماعي والحؤول دون إعادة توحيد البلاد.

إن ما تزعمه البعثة الأممية في ليبيا من أن انتخابات ستجري في 24 ديسمبر 2021، لن يتحقق تحت حراب المحتل التركي ولا في ظل حكم الميليشيات، وخلال أيام ستذهب ستيفاني ويحل محلها المبعوث الجديد نيكولاي ملادينوف، ليحاول من جديد كما فعل سابقوه الستة وسابعتهم ويليامز، وسيكون شعار الإخوان والأتراك وأمراء الحرب: كل شيء أو لا شيء، وسيبقى السراج في منصبه، ولن يتغير شيء باستثناء نشوب حرب جديدة ستكشف مرة أخرى عجز المجتمع الدولي عن فهم الحقيقة التي تبدو أكثر من بديهية، وهي أن لا حل سياسيا إلا بحل الميليشيات وجمع السلاح وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد فعلا وبقرار أممي غير قابل للتأخير، وليس قولا يندرج في باب الأمنيات.

* نقلا عن “العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى