في أحد أيام صيف العام 2014 وصل الأمريكي “جيرمي هيون” إلى حدود مصر والسودان، وهناك أعلن قيام مملكة أسماها “مملكة شمال السودان”، على أرض تسمى “بير طويل”، وذلك لتنفيذ وعد قطعه أمام ابنته البالغة سبع سنوات حينئذ، بأن يجعلها أميرة حقيقية، ولم تكد تمضي سوى سنوات قليلة حتى أقدم مواطن هندي هو “سوياش ديكسيت” على سلوك نفس الفعل، معلنا نفسا في نفس الأرض كـ”أول ملك هندي”.
وهو الحدث الذي لطالما تكرر وتناولته وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، كتفاعل “طريف” مع واقعة مثيرة من الظواهر الحدودية المعاصرة التي لا يقدم القانون الدولية بصددها أي جواب البتة.
يتعلق الأمر في القصص المشار إليها أعلاه، بما يعرف في دراسة العلاقات الحدودية في الدول التي كانت مستعمرات سابقة، بـ”الأرض المنبوذة” أو “الأرض بلا صاحب” terra nullius، في واحد من أغرب التعبيرات عن تشوهات الجغرافيا السياسية التي تركها الاستعمار ضمن آثاره الكثيرة على الأمم والشعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. فأرض “بير طويل” تلك لا تطالب بها كل من مصر والسودان، وكل منهما تقول بأنها توجد تحت سيادة الأخرى، فيما تطالب كلا الدولتين بمثلث “حلايب” الذي يشمل “حلايب” و”شلاتين” و”أبو رماد”، إذ تتمسك مصر باتفاقية 1899 الموقعة بينها وبين بريطانيا، وهي الاتفاقية التي تجعل مثلث حلايب ضمن السيادة المصرية وتجعل “بير طويل” خارجها، فيما تستند السودان إلى التقسيم الإداري لعام 1902، والذي يجعل المثلث ضمن السودان ويجعل “بير طويل” ضمن تراب مصر.
ولعل هذا النزاع الحدودي هو غيض من فيض إذا ما قورن بكم النزاعات الحدودية المنتشرة في المستعمرات السابقة، والتي تسبب فيها تمسك الكثير من الدول بمبدأ “الحدود الموروثة عن الاستعمار”، على نحو ما أقره مؤتمر القمة الإفريقي المنعقد في القاهرة منتصف ستينيات القرن الماضي، ولتصبح بذلك النزاعات الحدودية الشائكة أمرا واقعا يجري التعايش معه، ولو على حساب التنمية وحاجيات الإنسان ومصالح السكان، فبقيت ظواهر من قبيل الجيوب الحدودية مثل الأراضي التي تكون تابعة لدول لكنها توجد داخل الحدود الترابية لدول أخرى سواء في شكل أراض مطوقة “Enclaves”، أو في شكل أراض معزولة “Exclaves”، أو في شكل تداخل بينهما معا مثل ما هو الشأن بالنسبة للتداخل الحدودي بين أرمينيا وأذربيجان، أو بين الهند وبنغلاديش، حيث كان يبلغ عدد الجيوب حوالي 162 جيبا حدوديا إلى أن تم توقيع اتفاق بين الدولتين لتبادلها وحل المشاكل التي ارتبطت بها لعقود طويلة.
ظواهر هي تغذي النزاعات بين الجيران أحيانا، وتكون مطية للتدخلات الأجنبية والمشاريع التوسعية، وفي كثير من الأحيان تكون ذريعة لتنفيذ مشاريع تفتيت الدول وتشجيع الانفصال داخل بنياتها الاجتماعية والثقافية، وهو ما يجعل الحكم الذاتي يكون في وجه كل هذه المخاطر آلية من شانها رأب كل التصدعات المحتملة، خصوصا وأن فكرة الحدود الموروثة عن الاستعمار لا تجيب عن الحاجة إلى الحفاظ على ما أسماه المفكر المغربي عبد الله العروي “الأصول الاجتماعية والثقافية لمفهوم الوطنية”، لأنها بذلك تضرب في مقتل الهويات الثقافية الجامعة التي تعبر عن الحقوق التاريخية للشعوب والأمم، وهي الحقوق التي حاول الاستعمار إجهاضها باصطناعه للحدود بشكل “قسري”، ممزقا تلك الروابط، وفي حين كان من اللازم على حركات التحرر أن تقابل مفهوم الاستعمار عن جغرافيات المستعمرات بالرفض، حولته إلى معيار لبناء “الدولة الوطنية” وفق المفهوم الوستفالي.
وتبعا لهذا فإن اعتراف أزيد من أربعين دولة في الاجتماع الوزاري الأخير الذي رعته، قبل أيام، الولايات المتحدة الأمريكي والمملكة المغربية بمقترح “الحكم الذاتي”، لحل المشكل الحدودي المفتعل حول مغربية الصحراء، يعتبر منعطفا مهما في التصور العالمي حول قصور فعالية مبدأ “الحدود الموروثة عن الاستعمار”، من منطلق كون الحكم الذاتي هو الآلية الترابية الأكثر عقلانية في التقطيع الإداري، والأكثر قربا والتصاقا بقيم الديمقراطية المحلية، وهو يمثل بذلك ذروة الإنجاز في القانون الإداري على صعيدي الممارسة التنظير، فضلا عن كونه هو السبيل الأمثل نحو حل النزاعات الموروثة عن الاستعمار وفق صيغة تؤهل الدول المتجاورة لكي تمضي سريعا بعد الحكم الذاتي نحو توفير فرص الاندماج والتكامل الاقتصادي، توازيا مع حل مشكلة السيادة القانونية التي لا تتناقض مطلقا مع الحكم الذاتي كأسمى تعبير قانوني وديمقراطي عن الحق في تقرير المصير.
لقد أدركت أوروبا منذ منتصف القرن السابع عشر، وتحديدا مع مؤتمر ويستفاليا الذي أنهى حروب بقايا الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أدركت الدولة الوطنية، تلك الدولة التي تحدها حدود تضبط مساحة جغرافية محددة، ويرتبط فيها السكان المواطنون بالأرض، وتمارس عليها حكومة معينة سيادتها وسلطاتها، وهي العناصر المادية والقانونية التي أنهت مبدأ “حق الفتح” الذي ساد لقرون طويلة عوالم العلاقات الدولية، غير أن الطريقة التي نقل بها الاستعمار نموذج “الدولة الوطنية” إلى الشعوب والأمم التي استعمرها، جعل كل تلك العناصر تنتقل بشكل مشوه ومبتور في أحيان كثيرة عن القيم الناظمة له، وهو ما ولّد الكثير من المشاكل الحدودية، إلى أن بات “الحكم الذاتي” ضرورة لا محيد عنها لتجاوزها، تجاوز هو ينهي مشروع “التجزئة” الذي خرج من رحم الاستعمار، ويفتح الباب على مصراعيه أمام منطق التوحيد والدمج والاندماج، أي أمام منطق الأحرار.
نقلا عن سكاي نيوز عربية