حتى قبل أنْ تنفجر في وجه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مشكلة صفقة صواريخ (S – 400) الروسية، التي بادرت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى إدانتها على اعتبار أن تركيا عضوٌ رئيسي وفاعلٌ في حلف شمال الأطلسي، فقد لجأت واشنطن إلى تهديد تركيا بعواقب وخيمة، وحيث كانت قد سادت قناعة لدى الأتراك وعلى نطاق واسع وبمعظم أحزابهم الفاعلة، بأنّ نهاية رجب طيب إردوغان السياسية باتت قريبة، وأنّ هذا البلد، الذي كان ولا يزال يحتلُّ مكانة إقليمية ودولية في غاية الأهمية، بات يمرُّ بمرحلة تخبّطٍ خطيرة بالفعل إنْ على الصعيد الدولي والإقليمي وأيضاً إنْ على الصعيد الداخلي، وأنه بات يواجه أكبر أزمة طاحنة في تاريخه منذ ما بعد انهيار «الخلافة العثمانية» في عام 1922 وحتى الآن.
وهذا قد جعل غالبية أتراك المدن الرئيسية وقواهم الحزبية والسياسية يرون أنّ عليهم الاستعداد لما بعد رئيسهم الحالي، الذي كان أكبر خطأ ارتكبه هو أنه قد خسر أهم قياداته الفاعلة والمرموقة مثل أحمد داود أوغلو وعلي باباجان وعبد الله غُل، وهكذا فإنّ مصيره وفي أفضل الأحوال سيكون كمصير نابليون وهتلر وموسوليني الذين كان كل واحد منهم يعتقد أنه سيسيطر إنْ ليس على العالم كله فعلى أوروبا بأسرها!
والأخطر أنّ علاقات الدولة التركية بجيرانها وأصدقائها (التاريخيين) قد تردّت إلى الحضيض في زمن هذا الرئيس، وأنّ رجب طيب إردوغان قد أُصيب بداء العظمة فأصبح يتصرّف «توسعياً» إنْ في شرق البحر الأبيض المتوسط وإنْ في أفريقيا، كما حصل في ليبيا، وإنْ في سوريا والعراق، وإنه بعد تحالفه مع إيران وبعدما بات مرشداً أعلى لـ«الإخوان المسلمين» غدا يتصرّف كـ«خليفة» إسلامي، وأنه على الأمة الإسلامية أنْ تَدين له بالطاعة حتى بما في ذلك الدول البعيدة إنْ في آسيا وإنْ في أفريقيا وإنْ في كل مكان من الكرة الأرضية.
والمشكلة أنّه حتى السفراء الغربيون والشرقيون في أنقرة باتوا يتحدثون وبأصوات مرتفعة عن أنّ نهاية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد اقتربت وأنّ عليهم الاستعداد لما بعده، وأنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم قد أصبحت حاله كحال العديد من الأحزاب العربية التي ترى نفسها حاكمة وهي لا تحكم شيئاً، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، وأن «الليرة» التركية بات الأتراك يصفونها بأنها أصبحت كـ«قمامة الشوارع»، وأنّ فيروس «كورونا» بات يفعل في تركيا ما يفعله في دول كثيرة من بينها الولايات المتحدة، وهكذا ومع ذلك فإنّ أطماع الرئيس التركي التوسعية قد جعلت القبارصة واليونانيين وأيضاً الفرنسيين والإيطاليين يدقّون طبول الحرب وهم يتابعون تصرفات إردوغان الاستفزازية والعدوانية إنْ في البحر الأبيض المتوسط وإنْ خارجه.
والمشكلة أنّ «ما زاد الطين بلة»، كما يقال، أنّ رجب طيب إردوغان بعدما تخلص من كل القيادات التركية المرموقة، مثل عبد الله غُل وعلي باباجان وأحمد داود أوغلو، وأيضاً بعدما خسر بلدية إسطنبول وبلدية أنقرة، صار يتصرف كأن هذا البلد، تركيا، بات ملكاً له، بل إنه لم يتورّع عن أن يبيع عشرة في المائة من بورصة إسطنبول، مما أثار عليه المعارضة التركية بكل قواها وأحزابها، وعلى أساس أنّ هذه الهيئة هي هيئة وطنية لا يجوز لا بيعها ولا بيع بعضها ولا تأجيرها لغير الأتراك!
وهنا؛ فإنّ هذا كله قد جعل قوى المعارضة التركية، والتي رغم «ديكتاتورية» إردوغان وفرديته ونظامه الاستبدادي لا تزال تمتلك أوراقاً كثيرة، تدفع في اتجاه إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قريبة، لكن ما هو متوقع بل وما هو مؤكد هو أنّ الرئيس التركي سيقطع الطريق وقريباً على هؤلاء كلهم، وأنه سيفعل ما كان قد فعله في عام 2016 عندما لجأ، وبحجة أنّ الجيش التركي قد قام بمحاولة انقلاب عسكري ضده، إلى تصفيات اجتثاثية واسعة بالقوات المسلحة التركية، وهكذا فإنّ سجون تركيا لا تزال محشوة بنحو أكثر من ستين ألفاً من الضباط والجنود، وعليه فإنه قد انفرد بحكم هذا البلد المهم منذ ذلك الحين حتى الآن، وبات يفعل ما فعله مصطفى كمال «أتاتورك» وأكثر، والدليل هو كل هذا الذي بات يقوم به إنْ في تركيا كلها وإنْ في الدول المجاورة القريبة مثل سوريا وأرمينيا وكردستان العراقية وأيضاً في الدول التي تعد بعيدة كقبرص وليبيا وبعض الدول الأفريقية.
وعليه؛ فإنّ ما بات مؤكداً هو أنّ قوى المعارضة التركية غدت تعرف أنّ الرئيس إردوغان يستند في مواجهتها ومواجهة المدن التركية، إنْ ليس كلها فبعضها، إلى أهل الأرياف الذين يشكلّون القوة الرئيسية في الجيش التركي، والذين ببساطتهم يرون أنّ هذا الرئيس خليفة عثماني وأنه أمير للمؤمنين، وأنّ الأحزاب كلها حتى بما في ذلك حزب العدالة والتنمية أحزابٌ علمانية وتكفيرية، وأنه إذا لزم الأمر لا بد من مواجهتها وإرسال أعضائها وقادتها إلى السجون المحشوة «أصلاً» بمئات ألوف وجنود انقلاب عام 2016 من قوى المعارضة وبخاصة الأحزاب الكردية كحزب العمال الكردستاني التركي الذي لا يزال زعيمه عبد الله أوجلان رهين أحد السجون التركية منذ إلقاء القبض عليه في كينيا عام 1999 حتى الآن.
ولذلك يقيناً أنه إنْ لم تستطع المعارضة التركية انتزاع الحكم من يد رجب طيب إردوغان والعودة بالبلاد، بـ«تركيا»، إلى فترة مرحلة الديمقراطية الفعلية والصحيحة فإنّ الاستمرار بهذا الأسلوب الاستبدادي الذي يتّبعه الرئيس التركي، الذي غير مستبعدٍ أن يستمر بالسيطرة على البلاد والعباد ومن «المهد إلى اللحد»، كما يقال، حتماً يعني أنّ نهاية هذا البلد العظيم ستكون التمزّق والانشطارات المتلاحقة، فالأكراد في تركيا الذين يشكّلون القوة الثانية بعد الأتراك «العثمانيين» سيشكّلون دولتهم القومية الكردستانية التي سينضم إليها بالتأكيد أكراد سوريا وأكراد العراق وأيضاً أكراد إيران… والأكراد في كل مكان، وحيث إن العرب سيستعيدون لواء الإسكندرون العربي إلى ما كان عليه، ثم إنّ هناك أيضاً بعض الأقليات الأخرى ومن بينها الأرمن الذين كانوا قد تعرضوا لتلك المذبحة التاريخية على أيدي جنود القوات التركية «العثمانية»!
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا كله هو احتمالات واردة ومتوقعة وأنه سيحصل، ليس على أغلب الظن وإنما بالتأكيد، وذلك إنْ واصل رجب طيب إردوغان السير على هذا الطريق الذي بات يسير عليه، وإنْ كان سيفتعل انقلاباً عسكرياًّ ليتخلص من كل معارضيه كما افتعل انقلاب عام 2016 وتخلص من معارضيه الفعليين كلهم، وعندما تخلص حتى من بعض أقرب كبار المسؤولين له، وغدت السجون التركية محشوة بعشرات الألوف – والبعض يقول: لا، بل بمئات الألوف – من ضباط الجيش التركي وجنوده.
والواضح، وهذا إنْ لم تحصل بعض المستجدات المفاجئة، أنّ تركيا ستشهد وقريباً تطورات «دراماتيكية» هائلة، أخطرها التمزّق القومي والطائفي، وواضح أيضاً أنّ الأكراد والعرب وغيرهم ينتظرون مثل هذه اللحظة التاريخية، وأنه وبالتأكيد، إذا بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه، فإنه ستكون هناك الدولة الكردية القومية، وأن لواء الإسكندرون العربي سيعود لأهله، وأنّ باقي الأقليات القومية لن تبقى كما كانت في عهد الدولة العثمانية وفي عهد هذه الدولة التي أنشأها مصطفى كمال (أتاتورك).
نقلا عن الشرق الأوسط