يبدو الغرب وكأنه يمارس قدراً كبيراً من “التعقل” في التعامل مع الملف النووي الإيراني.
واقع الحال يقول إن دول مجموعة الست الموقعة على اتفاق لوزان مع إيران في عام 2015 أكثر قوة وقدرة منها على فرض الشروط والقواعد، ولكن طهران تملأ الدنيا صراخاً لتشعرك بأنها تخيفهم وتملي عليهم ما تريد وما لا تريد.
ترفع نسبة تخصيب اليورانيوم تدريجياً، ترفض التفاوض قبل رفع عقوبات الولايات المتحدة عنها، تصعد من اعتداءات مليشياتها في العراق على التحالف الدولي، ومن هجمات الحوثيين على المملكة العربية السعودية، فيرد عليها الأوروبيون والأمريكيون والصينيون والروس معاً بذات الرسالة والنبرة، بالنصح والدعوة إلى العودة للرشد الدبلوماسي في حل الأزمة.
الورقة الوحيدة التي تتسلح بها طهران هي سعيها للحصول على قنبلة نووية، وهذا السعي لن يصبح قوة حقيقية إلا إن امتلكت القنبلة فعلاً، وباتت قادرة على استخدامها كما هو الحال في كوريا الشمالية. القلق الغربي والدولي من هذا يقول ببساطة ووضوح إن طهران لن تتردد في استخدام القنبلة النووية عندما تمتلكها. فما الذي يمنع أشخاصاً مهووسين بالهيمنة، والسيطرة على مقدرات شعوب المنطقة التي تجاورهم، من استخدام مثل هذا السلاح، تماماً كما يستخدمون البندقية والصاروخ والطائرة والدبابة واللغم، خاصة أنه لا يوجد في طهران سلطات مستقلة ومنتخبة تضع أسساً صارمة للعلاقات الخارجية للدولة، ولا حتى في علاقة السلطة مع الشعب؟
قرار الحرب والسلم في إيران يخضع لمشيئة خامنئي، وهو الفرد الواحد صاحب السلطة المطلقة التي تتجاوز حدود القانون بكثير. ومن يطبقون رؤية “المرشد” وثقافة الهيمنة التي يؤمن بها على أرض الواقع، هم أشخاص لا يختلفون عنه في الحقد الذي يخلف دماراً وموتاً في كل شبر يمر فوقه داخل حدود إيران وخارجها.
فإن كان هؤلاء يستبدون بأبناء شعبهم، ويعلقون من يعارضهم على المشانق مع كل فجر يوم جديد، كما يمكنهم بلحظة أن يقصفوا طائرة مدنية محملة بنحو مئة وخمسين شخصاً بحجة أنهم كانوا يظنونها غارة أمريكية أو إسرائيلية، فما الذي يمكن أن يمنعهم من إطلاق صواريخ محملة برؤوس نووية محدودة الانتشار على دول العالم؟
الخشية الغربية من تحول إيران إلى قوة نووية هي خشية منطقية ومشروعة. ليس خوفاً على “فناء” إسرائيل كما يروج “محور المقاومة”، وإنما هو قلق من استخدام طهران للسلاح النووي في أي خصومة ضمن حدود المنطقة أو ضد أي دولة حول العالم. وإن لم تستخدمه إيران في الهجوم، فستجعله أداةً للابتزاز، فتدفع كثيراً من الدول في الشرق الأوسط والقارتين الآسيوية والأفريقية نحو التحول إلى القوة النووية. وأي سلام يمكن أن يشهده العالم بعد تفجر سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط؟!
أكذوبة القلق الغربي من الضرر الذي سيلحقه ما يسمونه “محور المقاومة” بـ”الصهيونية والإمبريالية” إن امتلكت طهران السلاح النووي، يروجها أبواق إيران ليشحذوا تعاطف المسلمين معها في مساعي الدول الكبرى لقطع الطريق على مطامعها النووية.
يتجاهل هؤلاء حقيقة أن الشعوب العربية والمسلمة قد تحررت من وهم “المقاومة” الذي تاجر به الإيرانيون لعقود، وهيمنوا من خلاله على أربع دول عربية.
في محصلة هذه المعطيات يمكن وضع ثلاثة محددات رئيسية للملف النووي الإيراني اليوم؛ الأول هو أن الواقعين الدولي والإقليمي مختلفان في كثير من التفاصيل عما كان سائداً قبيل اتفاق لوزان عام 2015، والثاني أن النظرة البرلمانية والشعبية لإيران في أوروبا وأمريكا قد تغيرت كثيراً على مدار السنوات الست الماضية، أما الثالث فهو أن جميع أطراف لوزان يحرصون على تجنب الأخطاء التي وقعت في السابق، فلا تريد إيران اتفاقاً ينهار كلما تغيرت الإدارة الأمريكية، ولا تستعجل الدول الست الكبرى إبرام معاهدة لا تأخذ بعين الاعتبار أولاً غدر الإيرانيين نووياً، وثانياً عدائيتهم تجاه شعوب منطقة الشرق الأوسط، ومحاولتهم زعزعة استقرار وسيادة وأمن دولها.
على ضوء هذه المحددات يمارس الغرب “تعقله” في التعامل مع إيران. يتشاور البريطانيون والألمان والفرنسيون والأمريكيون، ويضعون الخطط والسيناريوهات البديلة لكل خطوة، ثم يرتبون قائمة خياراتهم دون تحييد أي منها مهما بدا مستبعداً. يضعون خلافاتهم مع الصين وروسيا على جانب عندما يتحدثون معهم حول إيران، كما أنهم لا يهملون ردود الفعل ووجهات نظر الأطراف المعنية جداً بما يجري، ولكنها خارج اتفاق لوزان، فيشركونها في التفكير والتخطيط ويأخذون مخاوفها بعين الاعتبار.
ثمة عديد من الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي يؤكد الغرب عبرها لإيران أن الأمر قد تغير مقارنة بعام 2015. يعد الديمقراطيون في الكونجرس قانوناً يمنع إدارة الرئيس جو بايدن من رفع العقوبات عن طهران قبل التفاوض معها. تعيد واشنطن تفعيل اللجنة المعنية بنقاش الملف الإيراني مع تل أبيب، يؤكد بايدن حرص بلاده على دور السعودية في مناقشة أمن الشرق الأوسط، تقصف القوات الأمريكية مليشيات إيران في سوريا، وتضيق على الحوثيين في اليمن. أما الأوروبيون فيعلنون أن الاتفاق السابق مع طهران منقوص ويحتاج إلى توسعة وتدقيق كي يشمل جميع أنشطة إيران الخطيرة.
هل كل هذا هو مجرد دعاية سياسية للضغط على إيران من أجل العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي؟ هل يمكن أن يتخلى الغرب عن شروطه بين ليلة وضحاها فقط من أجل أن يبرم اتفاقاً ممسوخاً مشابهاً لما وقعه مع طهران عام 2015؟ هل يكون تعقله خديعة يشتري بها الوقت ليمرر اتفاقية تحد من طموح إيران النووي، ولكنها تطلق العنان لأحلامها التوسعية في المنطقة؟ في عالم السياسة كل شيء ممكن طبعاً، ولكن لكل فعل رد فعل أيضاً. يدرك الأوروبيون والأمريكيون جيداً أن المتضررين من أي اتفاق جديد مشوه مع إيران لن يصمتوا، وهم يمتلكون من الأدوات ما يفسد على الغرب “نصره” الهش مع طهران. وكما يقول رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ المملكة المتحدة ونستون تشرشل: “الغباء هو أن تجرب ذات الشيء مرتين وتنتظر ذات النتيجة”.