من المحزن أن يكون في ليبيا الدولة الغنية بالنفط، مليون ليبي يحتاجون للمساعدات الإنسانية، وأن تحتل مركزا ضمن 45 دولة بحاجة إلى مساعدات غذائية خارجية، وفقا لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (فاو).
ومن المفجع ما كشفته تقارير دولية عن ليبيا، كان آخرها تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (أسكوا) الذي صدر في الأسبوع الأول من ديسمبر الجاري.
وقدر التقرير الكلفة الإجمالية للصراع في ليبيا منذ اندلاعه في عام 2011 حتى اليوم بمبلغ 783 مليار دينار ليبي (ما يعادل 576 مليار دولار أميركي)، وتحويل الموارد الليبية من الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية إلى الإنفاق العسكري.
وبالنظر إلى كل الأرقام السابقة يقفز السؤال: أين ذهبت هذه الأموال في الوقت الذي لم يبن فيه مصنع واحد أو منزل لمشرد، ومازالت القطاعات الخدمية في الصحة والتعليم وغيرها معدومة الأثر والوجود؟
الإجابة في التقرير ذاته الذي يصف الحالة الاقتصادية التي تمر بها ليبيا منذ 10 سنوات، وفي الإصرار الإخواني على استمرار التحكم في الاقتصاد الليبي وعوائده عبر المصرف المركزي.
ارتباط الثروة بالقيمة معطى بديهي لا يحتاج إلى متخصصين لشرحه، لكنه يحتاج دائما إلى تأكيد وإعادة صياغة وتذكير في ظل هذا الكم الهائل من التداخل والتضليل المنظم التي تشهده المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة.
ومن الثابت أن الثروة دائما ما تربط بالقيمة التي تحدثها وتدعمها بالمنظومة الأخلاقية، التي تحكم عقليات وانحيازات وضمائر من يسيرونها ويوظفونها، إما في طرق العدل والسلام والتنمية والبناء، وإما في دروب وأنفاق الإرهاب والخراب والدمار، وإما في يد دولة تسعى لتوظيف الثروات في إقامة مؤسسات ومشروعات إنتاجية وخدمية تعود بالرفاهية على الناس، وإما في يد عصابة أو مجموعة تخصصها لشراء السلاح وتكريس القتل والإرهاب.
وبين هذه الحالات يكمن الدور الأكبر للمعايير والآليات والدوافع والأهداف الذاتية والخارجية التي تحكم القائمين على هذه الثروات،
والأمثلة التاريخية والمعاصرة كثيرة على طريقة توظيف الثروات والمعايير الضابطة والمنظمة لذلك على مستوى الكيانات والدول وحتى على مستوى الأفراد.
ويتطلب التقريب هنا استدعاء عابر دون إغراق في التفاصيل لأبرز نموذجين عربيين خليجيين في استخدام وتوظيف الثروات، الأول النموذج الإماراتي الذي وظف الثروة في إحداث ثورة علمية ونهضة اقتصادية وتنموية كبرى قامت على بناء الإنسان، إعمالا لوصايا المؤسس الأول المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
وفي مقابله يأتي النموذج القطري، الذي وظف الثروة في هدم الدول واحتضان وشرعنة وتمويل الإرهاب وشراء السلاح وتصديره إلى عدة دول عربية وإسلامية، تحت غطاء الثورات التي ضربت بعض الدول منذ عام 2011.
وبالعودة للخصوصية الليبية، فإن الثروة المنفلتة في ليبيا منذ 2011 ارتبطت بالفوضى والإرهاب المدعوم من قطر وتركيا، مما شكل تهديدا أمنيا محدقا باستقرار ليبيا ودول جوارها وإفريقيا، بل وتجاوزت تداعياته لتصل إلى أوروبا وعدة دول أخرى.
وهنا تبرز أهمية المحور الاقتصادي في حل الأزمة الليبية، الذي تولت القاهرة رعايته مع الأمم المتحدة كمدخل رئيسي لإنهاء الأزمة التي تعصف بليبيا وجوارها وفي المقدمة مصر، بعد أن ذاقت مر الإرهاب على مدار 10 سنوات كنتيجة طبيعية للحدود الكبرى التي تجمعها مع ليبيا.
كما دعمت هذا المحور الإمارات، في إطار الحد من التدفق غير المراقب للأموال التي تصب في النهاية لحساب رعاة مشروع التخريب والإرهاب في المنطقة والعالم.
واليوم وغدا (14 و15 ديسمبر ) تعقد جلسة جديدة للمسار الاقتصادي في جنيف برعاية مجموعة العمل الدولية المنبثقة عن مؤتمر برلين كأحد المسارات الثلاثة (الاقتصادي الأمني والعسكري السياسي)، التي تضمنتها خارطة المبعوث الأممي السابق غسان سلامة لمساعدة الخبراء الاقتصاديين الليبيين الـ28 الذين استضافتهم القاهرة في أكثر من جولة في فبراير ومارس، والذين استقروا على تشكيل 3 لجان تعمل على تحسين إدارة الإيرادات وتوزيعها، وتعزيز الشفافية في الصرف فضلا عن العمل على معالجة الأزمة المصرفية الملحة، إضافة إلى تشكيل لجنة لإعادة الإعمار والبناء والتنمية.
وبهذا الترتيب لأهمية المسارات نادت القاهرة منذ البداية أنه لا حل في ليبيا من دون شفافية في صرف عوائد النفط، وعدالة توزيع الثروة على أبناء ليبيا، حتى لا تستحوذ عليها مجموعة أيدولوجية ذات توجه لا يعرف سوى شراء السلاح والقتل وتصدير الإرهاب.
ومنذ عام 2012، يستحوذ تنظيم الإخوان الإرهابي على مصادر الدخل الليبية عبر مندوبه في المصرف المركزي الليبي الصديق الكبير، الذي تحكمه الذهنية القطرية في كيفية توظيف الأموال، حيث سخر المال الليبي في خدمة أهداف التنظيم وراعيته تركيا التي أصلحت اقتصادها باستثماراتها في الدم الليبي بإغراق البلاد بالسلاح والمرتزقة.
نقلا عن سكاي نيوز عربية