روسيا وأوكرانيا.. كيف للماضي أن يكون تهديدا للمستقبل
يستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يأمن جانب العقوبة المتعلقة بفصل روسيا عن نظام المدفوعات المصرفية “سويفت”.
الحلفاء الغربيون لا يريدون إحداث هزة أرضية في هذا النظام، الذي يتكفل بالإشراف على التبادلات بين البنوك في مختلف أرجاء العالم. إلا أن ذلك لا يخفف أثر العقوبات المحتملة الأخرى التي يمكنها أن تُحدث هزة أرضية حقيقية في الاقتصاد الروسي، وعلى التبادلات التجارية بين روسيا والدول الغربية.
الحنين إلى الماضي السوفييتي هو ما يدفع موسكو إلى توجيه التهديدات لأوكرانيا. وتُظهر الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية أنها وإن كانت لا تريد الخوض في مواجهة عسكرية مع روسيا، إلا أن الحنين إلى ماض غابر سوف تكون له كلفة باهظة على مستقبل روسيا نفسه.
لم تكن جهود الإصلاح التي قادها الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف بين العامين 1985 و1991، إلا محاولة لإنقاذ الاتحاد السوفييتي من الفشل الاقتصادي. ولكن هذا الفشل كان من العمق بحيث إن تلك المحاولات نفسها فشلت وسط جملة من الضغوط الأخرى، لا سيما من جانب “الجمهوريات السوفييتية” السابقة التي لم يعد بوسعها البقاء أسيرة سياسات يتم رسمها في موسكو. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991، نتيجة طبيعية لتلك الضغوط.
ما حصل هو أن روسيا اختارت طريقا آخر، بالالتحاق، اقتصاديا على الأقل، بالغرب وبنظام العلاقات الرأسمالية. البدايات كانت فوضوية تماما. وكانت تلك مشكلة بيروقراطية لنظام سياسي لم يتمكن من إدارة مرحلة انتقالية منضبطة، كما فعلت الصين. إلا أن روسيا تجاوزت، شيئا فشيئا، عثرات التحوّل. وأصبحت جزءا من النظام الاقتصادي العالمي، وهو ما فتح لها الطريق الى أن تكون عضوا في مجموعة الدول الصناعية الكبرى، التي صار اسمها “مجموعة الثمانية”، بدلا من “مجموعة السبعة”، وذلك حتى عام 2014 عندما قامت بغزو أوكرانيا، بدوافع الحنين إلى الماضي السوفييتي، وعندما قررت استعادة شبه جزيرة القرم منها، وتحريك دوافع انفصالية في إقليم دونباس، بعدما ظهر أن أوكرانيا تمسكت بالإفلات من الدوران في الفلك الروسي.
يضع الرئيس بوتين الآن كل ما تم إرساؤه من علاقات اقتصادية مع الدول الغربية على المحك، بسبب ذلك الحنين نفسه. وهو ما يبرر الاعتقاد بأنه “يغامر بمستقبل روسيا من أجل أن يستعيد ماضيها”.
تستهين موسكو الآن بحقيقة أن دول أوروبا الشرقية باتت دولا مستقلة، وذات سيادة، ويحق لها وحدها أن تقرر ما إذا كانت تريد الانضمام الى الحلف الأطلسي.
موسكو تريد أن تأخذ هي القرار الدفاعي لهذه الدول. وهو أمر لا صلة له بأي منطق، عدا منطق الحنين طبعا.
الذرائع التي تثيرها موسكو الآن بشأن اقتراب “الأطلسي” من حدودها، لا تستقيم مع حقيقة أن “الأطلسي” موجود بالفعل في تركيا، دون الكثير من الجدل. دع عنك أن الأطلسي سبق وأن تمدد إلى جوار روسيا شمالا من جهة جمهوريات البلطيق الثلاث: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا.
مفهوم تماما أن الروابط الثقافية والتاريخية والاقتصادية بين روسيا وأوكرانيا تشكل نوعا من حافز مستقل لتغذية دوافع الحنين. إلا أن أوكرانيا كانت من بين أُول الدول التي آثرت الانفصال بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وهي عندما قررت أن تلتفت غربا، فلأن الفلك الاقتصادي الروسي لم يكن ليعدها إلا بالفقر والتبعية.
بماذا تغامر موسكو الآن وهي تغرق بمشاعر الحنين؟
لا حاجة إلى فصل روسيا عن نظام “سويفت”. ولكن عندما يتم فرض عقوبات وقيود على البنوك الروسية، فإن الجانب الأكبر من الضرر على التبادلات المصرفية الروسية مع العالم يكون قد وقع بالفعل.
تجدر ملاحظة أن أي قيود وعقوبات أخرى على الصادرات الروسية إلى الدول الغربية سوف تكون بمثابة كارثة، أعمق بكثير من هزة أرضية.
ما يزال بوسع الاجتماعات بين روسيا والولايات المتحدة، وبينها وبين الاتحاد الأوروبي أن تسفر عن مخرج. ولكن الطرفين يحتاجان إلى الوقت “الضائع” بين محادثات فاشلة وأخرى، لإحصاء التكاليف.
حجم التجارة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، بلغ في عام 2019 نحو 218 مليار دولار، وبلغت حصة الصادرات الروسية منها 136.67 مليار دولار، ما منح روسيا فائضا تجاريا يصل إلى 45 مليار دولار.
أما التبادل التجاري مع الولايات المتحدة فقد وصل إلى 19.8 مليار دولار من يناير إلى يونيو 2021. وهو ما يشير إلى أن الإجمالي السنوي وصل إلى نحو 40 مليار دولار.
وعلى وجه الإجمال، فإن حجم تجارة روسيا الخارجية مع دول العالم بلغ في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 أكثر من 540 مليار دولار، وبلغت صادرات روسيا منها 310 مليارات دولار. وسجل الميزان التجاري الروسي بذلك فائضا يبلغ 130 مليار دولار في تلك المدة.
هذا العائد كان هو الذي ساعد روسيا على الوقوف على قدميها من جديد. وهو ما يمكن أن ينهار. وقد تنهار معه قدرة روسيا على البقاء قوة اقتصادية عظمى.
وهذا ثمن باهظ فعلا، يجعل الماضي تهديدا حقيقيا للمستقبل.