اخترنا لكم

صراع الموانئ يخلط الأوراق بين الحلفاء والأعداء

سوسن مهنا


تنازعت الحضارات منذ القدم على منطقة البحر الأبيض المتوسط، هذه المنطقة التي تتميز بتنوعها العرقي واللغوي والثقافي والحضاري والديني، دفعت من أجلها جيوش “العالم القديم” دماً ودموعاً، وسعت أمم عدة للسيطرة عليها. وكان حوض المتوسط مهد الحضارة العالمية منذ المستوطنات الأولى التي أقيمت عام 9000 قبل الميلاد في أريحا. وأطلقت عليه تسميات كثيرة، منها “قلب العالم”.

وشكل حوض المتوسط “ملتقى الحضارات” من بلاد ما بين النهرين إلى مصر، ومن دويلات المدن اليونانية إلى الحضارة الفينيقية، ومن قرطاج إلى روما، ومن بغداد إلى الأندلس. كما أن هناك إمبراطوريات مدينة له بصعودها وهيمنتها قروناً عدة، بسبب سيطرتها عليه، مثل الإمبراطورية الرومانية، وتكتسب هذه المنطقة تلك الأهمية الاستراتيجية، بحيث رافقتها المنافسات والنزاعات والحروب حتى يومنا هذا.

مضائق المتوسط

 

ويتميز حوض المتوسط، الذي يمتد على مساحة تفوق 2.5 مليون كيلومتر مربع، ويفصل بين جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا، إلى جانب موقعه الفريد، بخصائص جغرافية، بوصفه بحراً شبه مغلق، بحيث لا يمكن العبور إليه إلا من خلال مضائق، وهي مضيق جبل طارق، الذي يصل بين مياه المتوسط والمحيط الأطلسي، والبوسفور بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ومضيق الدردنيل مع الحدود الجنوبية بين قارة آسيا وأوروبا، وقناة السويس، وهي ممر مائي صناعي بين مدينة بورسعيد (مصر) ومدينة السويس على البحر الأحمر. إضافة إلى ذلك فإن المتوسط منقسم في الوسط من خلال مضيق آخر تمثله جزر مالطا وصقلية. وهذه المضائق تشبه عنق الزجاجة التي تحد من الملاحة البحرية، وتسهل السيطرة عليها. وأثارت هذه المضائق لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية النزعة التنافسية لدى معظم القوى الإقليمية، كنقاط دفاعية، ومنافذ صوب بقية العالم.

سياسة التوسع والموانئ

 

ويربط المتوسط بين ثلاث قارات هي أفريقيا وآسيا وأوروبا، وهذا ما يعطيه الأهمية الجيوستراتيجية، وسمح له بأن يكون دائماً طريقاً بحرياً مهماً تمر منه عشرات الملايين من الحاويات في كل عام، وهذا ما يجعل منه مركزاً للتجاذب والنزاع ما بين الحلفاء والأعداء.

وفي هذا الإطار، تمكنت روسيا من استغلال الحرب الأهلية في سوريا، ما عزز حضورها في المتوسط من خلال قاعدتين عسكريتين هما ميناء طرطوس والقاعدة العسكرية في اللاذقية، وهو ما يعتبره كثير من المراقبين تعزيزاً لوجود الأسطول البحري الروسي ونشاطه في البحر المتوسط، وأيضاً شاركت موسكو في الصراع الليبي ما سوف يسمح لها لاحقاً باستغلال هذا البلد وثرواته الطبيعية.

في المقابل تستغل الصين الصراعات في المنطقة لنجاح استراتيجية طريق الحرير الجديد أو “الحزام والطريق”، إذ تمكنت من الاستحواذ على امتياز إدارة ميناء بيرايوس اليوناني، وأصبحت مالكة غالبية الأسهم في موانئ أخرى مثل فالنسيا في إسبانيا. كما أنها استثمرت في موانئ مهمة مثل طنجة ومالطا، إلى جانب موانئ إيطالية وحيفا في “إسرائيل” وبورسعيد وقناة السويس في مصر. وامتد النفوذ الصيني في أفريقيا، وفتحت بكين أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي بمنطقة القرن الأفريقي.

وفي السياق نفسه، تركز اهتمام تركيا في السنوات الأخيرة بمنطقة القرن الأفريقي، وقد حصلت في 2014 على حق إدارة وتشغيل ميناء مقديشو في الصومال، مقابل تخصيص أكثر من نصف عائداته السنوية لخزانة الحكومة الفيدرالية الصومالية. ولا ينحصر الطموح التوسعي لتركيا هنا، بل يمتد شمالاً في السودان، إذ استطاعت أنقرة الحصول على حق تطوير وإدارة جزيرة سواكن السودانية ذات الأهمية الاستراتيجية، التي تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وهي واحدة من أقدم الموانئ في أفريقيا، من دون إهمال الدلالة التاريخية لهذه الجزيرة التي كانت تعتبر علامة ملاحية بارزة في عهد الخلافة العثمانية.

وكانت مصادر عسكرية تركية قد كشفت أن أنقرة تبحث مع حكومة الوفاق، إمكانية استخدام تركيا قاعدتي الوطية الجوية ومصراتة البحرية، إضافة إلى هذا يخضع مضيقا البوسفور والدردنيل للسيطرة التركية، ويعتبران المنفذ الوحيد لروسيا نحو المتوسط.

التنافس الإيراني الروسي في سوريا

ولا تخفي إيران أطماعها في المنطقة، واستطاعت الاستحواذ على عقد تشغيل ميناء اللاذقية، كما تسعى للحصول على حق إدارة ميناء بانياس، وإذا جرى ذلك، سيكون الميناء الثاني لها على المتوسط من أصل ثلاثة موانئ فقط في سوريا هي، اللاذقية، وبانياس، وطرطوس. ولميناء بانياس أهمية استراتيجية كبيرة جداً، فهو يتوسط قاعدة حميميم، والقاعدة العسكرية الروسية في طرطوس.

وفي تقرير لصحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية، نُشر في مايو (أيار) 2019، تحدث عن مخاوف موسكو أن تتحول مدينة بانياس السورية إلى قاعدة عسكرية لإيران، وقالت مصادر دبلوماسية روسية إنه من المحتمل أن يكون لنشر قاعدة إيرانية بين المواقع الروسية في طرطوس وفي حميميم عواقب بعيدة المدى، وأشار التقرير إلى أن الخبراء الروس يعتقدون بوجود خلافات كثيرة بين موسكو وطهران.

ويقلق النشاط الإيراني في سوريا روسيا، كما الولايات المتحدة، وتعتبر روسيا أن أي وجود عسكري لإيران على الساحل سيكون خطراً عليها، خصوصاً أن أي قصف إسرائيلي أو أميركي محتمل لسفن إيرانية سيكون على مرمى حجر من قاعدتي حميميم ومرفأ طرطوس، الذي وقّعت روسيا عقد تشغيله مدة 49 عاماً.

الصراع التركي – الفرنسي: مرفأ بيروت نموذجاً

ولا ينتهي الصراع الفرنسي – التركي في ليبيا، بل امتد ليشمل منطقة المتوسط أيضاً. وظهر هذا جلياً بعد تفجير مرفأ بيروت، هذا المرفأ الذي افتتح سنة 1894 كان ميلاده قبل ذلك بقرون طويلة، ويشكل واحداً من أهم 87 ميناءً على ضفاف المتوسط، وذلك بسبب ميزات كثيرة يتمتع بها، حيث يقع على طرق التجارة الرئيسة في العالم التي يمر بها نحو ثلث التجارة العالمية، ويتعامل مع 300 مرفأ عالمي، ويُقدر عدد السفن التي ترسو فيه بـ3100 سفينة سنوياً، بينما تصل عائداته السنوية إلى أكثر من 200 مليون دولار، ويتفوق على الموانئ الإسرائيلية في تصدير البضائع إلى الدول العربية.

ونظراً إلى أهميته قدمت “شركة موانئ دبي العالمية” عرضاً، يقضي بإعادة إعمار المرفأ، مقابل استثماره 25 عاماً. إضافة إلى العرض التركي لإعادة إعمار المرفأ والمباني المجاورة له. وفي المقابل، جاء العرض الفرنسي من قبل جمعية أرباب العمل الفرنسيين “ميديف”، إذ أعلنت الشركات الفرنسية استعدادها للعمل “إلى جانب الشعب اللبناني” في مشروع إعادة بناء ميناء بيروت.

ويقول الباحث العسكري العميد خليل الحلو، في حديث إلى “اندبندنت عربية”، “الصراع التركي – الفرنسي يمتد إلى ليبيا، لا سيما أن فرنسا وإيطاليا تعتبران ليبيا مصدراً للنفط والغاز، بسبب القرب الجغرافي وسعره المعقول”. وقابل التدخل التركي في ليبيا، الدعم الفرنسي لقوات خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق، وتدعم فرنسا اليونان في صراعها مع تركيا، وستعقد معها اتفاقية عسكرية لشراء طائرات “رافال”، وستزود قبرص بأسلحة بقيمة 400 مليون دولار، إضافة إلى أن العلاقة بينها وبين لبنان علاقة ثقافية متجذرة في التاريخ.

ويعتبر الحلو أن المبادرة الفرنسية في لبنان تزعج تركيا، وبما أن الوجود الروسي في سوريا يمنعها من التمدد بشكل فاعل باتجاه لبنان، ذلك أن في لبنان بعض الأطراف التي تتعاطف مع تركيا، (لخلق توازن مقابل التدخل الإيراني)، يأتي التدخل الفرنسي لإعادة التوازن مقابل النفوذ الإيراني، ويخفض الحاجة إلى التدخل التركي. ما يضعف من دور أنقرة الفاعل على ضوء المعطيات الحالية.

وعن الاهتمام بمرفأ بيروت يشير إلى أنه “عندما تكون البحرية الفرنسية تجوب في شرق المتوسط ما بين اليونان وقبرص ومصر ولبنان، من الطبيعي أن يكون مرفأ بيروت موضع اهتمام فرنسي، كي لا يشكل لها هذا المرفأ أي مصدر قلق من وجود قوى مثل (حزب الله) أو قوى في المستقبل تكون متحالفة مع تركيا. إذن، الاهتمام بالمرافئ هو لأسباب عسكرية ولوجيستية ولأسباب تجارية، ولأنها أبواب الدول على شرقي المتوسط”.

الصراع على غاز المتوسط

 

تسليط الأضواء على الموانئ اللبنانية قد يكون بدأ مع الحديث عن اكتشافات نفطية في منطقة المتوسط. ما دفع بدول كبيرة إلى إرسال أساطيلها، واختلفت الأهداف المُعلنة ما بين دولة وأخرى. إلا أن الغاز يبقى الهدف الأساس للمرحلة المقبلة. من هنا وضعت الولايات المتحدة ومنذ عهد الرئيس باراك أوباما، أنظارها على موارد الغاز في المتوسط، ونشرت شركاتها لاستكشاف والتنقيب على سواحله.

ويأتي إعلان أنقرة تنفيذ أعمال تنقيب عن الغاز في مياه شرق المتوسط، في هذا السياق، وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة والتحذيرات التي وجهت إلى تركيا، فإن الرئيس رجب طيب أردوغان أكد مراراً وتكراراً أن بلاده مستمرة في التنقيب عن الغاز، مشيراً إلى أن “أعمال التنقيب تأتي في إطار الحفاظ على حقوق جمهورية قبرص التركية بصفتها دولة ضامنة” من جهة، ومن جهة أخرى عدم اعتراف أنقرة باتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص. كما حازت موسكو حقوق تنقيب النفط والغاز في البر والبحر السوريين. وكان لبنان قد وقع عقوداً مع ثلاث شركات هي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتيك” الروسية، للتنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية.

ويشير الباحث في شؤون الاقتصاد والنفط زياد ناصر الدين، إلى “أن موقع مرفأ بيروت الاستراتيجي جعل منه قبل الحرب السورية الشريان المغذي لاقتصادات المنطقة الممتدة من سوريا إلى العراق وصولاً إلى الأردن ودول الخليج”. ويستشهد بكلام المؤرخ اللبناني ميشال شيحا الذي قال “إن الاقتصاد اللبناني مبني على المرفأ والمصارف”.

ويضيف ناصر الدين أنه “عدا عن مميزات المرفأ ومنها العمق الذي يصل إلى 35 متراً ما يميزه عن باقي موانئ المنطقة، فهو يتعامل مع 56 شركة شحن عالمية. ويعتبر صلة وصل أساسية ما بين الشرق والغرب، وهذا يضعه اليوم في مواجهة أساسية ضمن التنافس ما بين الموانئ الموجودة على سواحل شرق المتوسط، كمدخل أساسي متعلق بمصادر الطاقة، تحديداً الغاز الذي يعتبر الثورة الاقتصادية المستقبلية”.

نزاعات ترسيم الحدود

 

ويشرح عن نزاعات المنطقة على ترسيم الحدود البحرية، ويقول “هذا يمتد على كل دول المنطقة مثلاً، النزاع ما بين لبنان وإسرائيل وقبرص، وما بين تركيا واليونان ومصر وقبرص أيضاً، وما بين مصر وليبيا. لذا سوف تلعب المرافئ القوية دوراً مستقبلياً مهماً جداً بمشاريع الاستثمارات في الغاز”. ويؤكد الباحث ناصر الدين أنه “بالنسبة إلى مرفأ بيروت، فإن الدولة التي ستعيد إعماره ستحدد وجهته الاقتصادية مئة سنة مقبلة”.

وعن الصراع الحدودي في المنطقة يشير إلى أن “تحول المنطقة إلى نزاعات على الحدود البحرية يُدخلها في صراع سياسي واقتصادي مرتبط بشكل أساسي بإيجاد أسواق لهذا المخزون النفطي الكبير الموجود في قعر المتوسط، ما يعنون المرحلة المقبلة لصراع شرق المتوسط بالتالي: صراع حدود بحرية، وصراع نفوذ بحري، وصراع على الأسواق الأوروبية، وصراع موانئ تجارية. وعن التنافس ما بين مرفأ بيروت ومرافئ المنطقة يشير إلى أنه “على الرغم من التحسينات التي طالت إشدود وحيفا في الأراضي الفلسطينية، فإنها لم تصل إلى نتائج مرفأ بيروت، وذلك بسبب ميزات المرفأ التي أوردت سابقاً، واندماجه في النظام العالمي للمرافئ على الرغم من الفساد المستشري في البلد”.

نقلا عن إندبندنت عربية

زر الذهاب إلى الأعلى