في العام 1839، عهد السلطان العثماني عبد المجيد الأول، دخلت الدولة العثمانية في مرحلة تُسمَى “عهد التنظيمات”، حيث تعالت أصوات عثمانية تندد بانهيار وانبطاح الدولة وتطالب بوضع نظام إصلاحي لمفاسد الحكم..
ضمن تلك المحاولات العبثية للإصلاح العثماني صدر أمران سلطانيان “خطي كلخانة” و”خطي همايون” وتضمنا تأكيدا على المساواة بين الرعايا العثمانيين بغير تفرقة بسبب الدين، وبناء عليه أصبح من حق المسيحي أداء الخدمة العسكرية، والترشح للوظائف المدنية، ومخاطبة السلطات مباشرة دون الرجوع لقيادته الطائفية..
ابتهج الأرمن بهذا الأمر، وسارع أرمن القرى برفع مظالمهم للباب العالي الذي أمر بالتحقيق فيها، ولكن بدلا من أن يُنصَف المظلوم منهم تعرضوا لبطش وتعسف وتجبر البكوات والبشوات والسادة الإقطاعيين والعسكريين العثمانيين انتقاما منهم لشكواهم من ظلم الطغمة العثمانية لهم! وبالتالي فقد بدأت عملية “إزاحة” الأرمن من أراضيهم، أما من اختاروا البقاء فقد عاشوا في وضع أشبه بالعبودية
النهضة الفكرية الأرمنية تستفز الطاغية العثماني:
بعد الثورة الفرنسية، في نهايات القرن 18، بدأت أفكار التحرر وحقوق الإنسان تتسرب للشعوب، ومنها الأرمن الذين شهدت فئتهم نهضة فكرية وثقافية كبيرة خلال العقود التالية للثورة الفرنسية، حيث بدأت حركة إحياء واستحضار للموروثات الثقافية واللغوية والتاريخية الأرمنية، وحركة ترجمة للأدب الأوروبي للغة الأرمنية، وحركة تشجيع على التعليم لدرجة أن الأستانة وحدها كان بها نحو 5000 تلميذ وتلميذة من الأرمن يدرسون مجانًا ويُبَعث المتفوقون منهم لأوروبا ليستزيدوا من العلم.. وبدأت الصحف الأرمنية في الصدور، بل وصدر سنة 1860 “نظام نامه الملة الأرمنية” أي ما يشبه الدستور لتنظيم أحوال الأرمن، والذي صدق عليه العثمانيون..
تلك النهضة وذلك النشاط أثارا ريبة العثمانيين في أن الأرمن يرغبون في الانفصال عن الدولة أسوة بالشعوب غير المسلمة كاليونان والصرب مثلًا.. ولكن حقيقة الأمر أن الأرمن لم يرغبوا في الانفصال، فكبارهم كانوا مقربين من السلطة ويعيشون في رفاهية واضحة في كبريات المدن ويندمجون في الجهاز الإداري العثماني، وعامتهم كانوا متفرقين هنا وهناك في مناطق تفصلها تكتلات بشرية كردية وتركية، فلم يكونوا يعيشون على إقليم متصل موحد يمكنهم الانفصال به..
وكل ما طمع فيه الأرمن، آنذاك، كان مطالبهم بإجراء إصلاحات في المناطق الأرمنية تتمثل في: حمايتهم من هجوم العصابات التركية والكردية للسلب والنهب والقتل – حمايتهم من المسؤولين الإداريين الفاسدين الذين يديرون تلك المناطق – تفعيل قانون مساواتهم بالمسلمين..
ولأن الحماقة كانت هي القانون الحاكم للإدارة العثمانية، فقد رأى العثمانيون في تلك المطالب اجتراءً على مقامهم، وفي النهضة الأرمنية تهديدًا لسطوتهم.. لهذا بدأت رحلة البطش بالأرمن..
بداية الدم:
في العام 1862 حاول العثمانيون القضاء على الحكم الذاتي في إقليم زيتون الأرمني، فتوجه الجيش العثماني لفرض الحكم المباشر له بالقوة.. قاوم أهل الإقليم بشراسة واستطاعوا هزيمة العثمانيين..
استشاط العثمانيون غضبًا وبعثوا بقواتهم تحاصر الإقليم بغرض تجويعه.. وأخيرًا لم يملك أرمن إقليم زيتون إلا الاستغاثة بفرنسا التي توسطت بينهم وبين العثمانيين الذين فكوا الحصار بشرط أن تكون بالإقليم حامية عثمانية..
وتكررت تجربة إقليم زيتون في أكثر من إقليم أرميني على مر السنوات التالية.. ومع ذلك بقي تمسُك الأرمن بالولاء للدولة العثمانية، حتى أنهم قد أبدوا الابتهاج بدستور 1876 الذي أصدره السلطان عبد الحميد الثاني، باعتبار أنه أمل في تحقيق المساواة التي طالما نشدوها..
ولكن، كانت وعود السلطان مجرد هواء، وما زاد الطين بلة أن الحرب الروسية العثمانية قد اندلعت، ولأن الأراضي الأرمينية التاريخية كانت موزعة بين العثمانيين وروسيا، فقد كان ثمة أرمن روس في الجيش الروسي..
كان هذا سببًا في خشية المثقفين الأرمن من استغلال العثمانيين لذلك للإمعان في اضطهاد الطائفة كلها، فالعثمانيون كانوا مشهورين بهذه اللعبة: استهداف الطائفة الدينية التي يتصادف أن يحارب الدولة عدو على نفس دينها.. وهي ممارسة يحبها المتطرفون في كل العصور!
وبسبب مزيج من تحامل السلطة العثمانية من ناحية، وانشغال القوى الدولية عن قضية الأرمن بالسباق الاستعماري من ناحية أخرى، بدأ بعض الشباب الأرمني في تنظيم الحركات والتنظيمات المسلحة، ليس بغرض استهداف الدولة وإنما في محاولة لحماية أقاليمهم من غارات العناصر التركية والكردية التي اعتادت ذلك في ظل تجاهل الباب العالي..
ومنذ العام 1885 بدأ الأرمن في تأسيس الأحزاب، كحزب الأرميناج المؤسس في نفس العام، أو حزب “هانشاك”.. ولكنهما كانا حزبان ينتهجان العمل السلمي، بينما كان حزب الطاشناق المؤسس سنة 1890 حزبًا ثوريًا ينتهج العمل المسلح..
ولكن الطاغية العثماني لم يكن يفرق بين معارضة سلمية أو مسلحة، فبالنسبة له أية معارضة أرمنية هي “مؤامرة ضد المسلمين لتمزيق وحدة الدولة” وهو نفس ما يروج له العثمانيون الجدد الآن عن الصدام الأرمني العثماني..
وبالفعل، ففي مظاهرة لحزب الهنشاك سنة 1890 تعرض المتظاهرون لعنف السلطات العثمانية مما أسفر عن مقتل عدد منهم… وسرعان ما قرر عبد الحميد الثاني قمع المعارضة الأرمنية بشكل قاسي، فقد سارع بتنظيم قوات خاصة من الأكراد والجراكسة والألبان وكلفها بمواجهة المعارضين الأرمن وقمعهم بأي شكل..
مزيد من الدم:
كان ما سبق مقدمة لمزيد من حمامات الدم، ففي العام 1894 وقع تمرد في منطقة ساسون الأرمنية نتيجة تزايد الضرائب وتصاعد فساد البكوات والباشوات الأتراك في المنطقة، فحاصرت القوات العثمانية ساسون لمدة شهر، ثم وعدوا المتمردين بالعفو العام فأعلنوا استسلامهم، ولكن الوعد العثماني كان هواء، فقد اجتاح العثمانيون الإقليم وأعملوا القتل والسلب والنهب والإعدام بحق أهله لمدة ثلاث شهور بغير تمييز بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ.. وبلغت المذبحة من البشاعة أن استفزت القوى الأوروبية للمطالبة بتحقيق دولي في الواقعة..
ورغم الأصوات الدولية المُدينة للممارسات العثمانية، أطلق عبد الحميد الثاني العنان لقواته من العثمانية والكردية تهاجم الأحياء والقرى الأرمنية كلها وترتكب بها أبشع المجازر إلى درجة قيام تلك القوات بقتل 3000 أرمني حرقا في مدينة “الرها”.
واستمرت تلك المجازر الحميدية حتى يوليو 1896 مخلفة 100,000 قتيل أرمني ونصف مليون مشرد!
لم يتوقف إجرام عبد الحميد عند هذا الحد، بل تعداه لما هو أحط وأخس..
ففي أغسطس 1896 احتل بعض الشباب الأرمني الغاضب البنك العثماني بالأستانة واحتجزوا من فيه رهائن وطالبوا بتدخل الدول الكبرى لحل المشكلة الأرمنية..
وبعد مفاوضات وتدخل من القنصل الروسي أطلق الشباب سراح الرهائن وغادروا البنك ليصعدوا على متن سفينة فرنسية تحملهم للمنفى، حسب الاتفاق مع السلطات..
وهنا أعطى عبد الحميد الإشارة لرجاله، فأطلقوا عصابات من المتطرفين في شوارع الأستانة يقتلون وينهبون كل أرمني يوقعه حظه العاثر في مواجهتهم ولو بالصدفة.. وانطلقت القوات غير النظامية “الباشبوزق” تداهم مناطق الأرمن و”تصيدهم” ومن يقع منهم في أيديها يتم ذبحه أو ضربه حتى الموت.. بل ودوهمت باقي أحياء المدينة مع نفس الممارسات إلى حد أن أرمن الحي اليهودي وحي قاسم باشا في العاصمة قد أبيدوا عن آخرهم.. واستمرت المجزرة البشعة المحاطة بالرضا السلطاني تدور حتى اليوم التالي ولم يوقفها سوى تدخل البريطانيون خوفًا على رعاياهم!
لم تكن هذه هي ذروة الظلام التي تسبع شعاع النور.. بل كان في انتظار الأرمن مزيدًا من الإجرام والفُجر العثماني..
– يتبع –