ثلاث قضايا أغفلتها الحوارات الفلسطينية في القاهرة، لأن الفصائل الـ14 التي شاركت في هذه الحوارات كانت منشغلة بأشياء تعتبرها أهم.
تتعلق بضمانات الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة في 22 مايو المقبل.
والبحث عن فوز، إنما يكشف عن طبيعة تلك الفصائل، ومستوى ثقافتها السياسية، ودرجة ارتباطها بـ”القضية الوطنية”، ذلك أن السلطة هي الآن “أم القضايا”، وكل ما بعدها يهون.
ولأن السلطة هي ما هي، بالنسبة لأولئك الذين يطبخون الحصى لشعبهم، فإن تدبير الترتيبات التي تحفظ لهم دورهم فيها، هي ما انتهى إليه الاجتماع. فكان بأعينهم “ناجحاً”.
عادوا متفقين، إنما بصيغة تضمن لهم الفوز، كائنة ما كانت نتيجة الانتخابات. فالفكرة الأساسية من إقامة “حكومة وحدة وطنية” بعد الانتخابات، إنما تعني “حصة في السلطة”، لا أكثر ولا أقل.
لم يكن مهماً، بالنسبة للباحثين عن حصة، ما هو برنامج “حكومة الوحدة الوطنية”، ذلك أن ضمان الحصة يسبق كل شيء.
وبطبيعة الحال، فإن طرفي الانقسام الفلسطيني سيذهبان إلى الانتخابات كل ببرنامجه الخاص، إنما ليكون هو نفسه برنامج مخادعات، بالنظر إلى أن الطريق سينتهي بشيء آخر، حسبما يتم التوافق عليه من ترتيبات بموجب حجم الحصة في “حكومة الوحدة الوطنية”، والتي سيكون لها برنامج آخر غير ما تم التصريح به قبل الانتخابات.
الرئيس محمود عباس، لكي يضمن حصته الخاصة، فقد تقدم بعرض لمنافسه المحتمل مروان البرغوثي، كان نوعاً من رشوة سياسية لمنعه من الترشح لانتخابات الرئاسة، في مقابل حصوله ومن يختارهم على 11 مقعداً في المجلس التشريعي، وعلى مساعدات مادية لأسرته.
عباس كان قد ضمن مسبقاً عدم منافسته من جانب مرشحين تدعمهم حماس.
هذه كلها خطايا، وتشكل إهانة صريحة للفلسطينيين ولقضيتهم الوطنية. فهي تشير إلى أن القضية الأهم هي “السلطة”، وهذا ما لا علاقة له بالشعارات ولا بالخطابات التحررية التي تقال من باب الخداع وطبخ الحصى.
أما القضايا التي غفلت عنها الحوارات، فهي:
أولاً، الإقرار بمبدأ وحدة السلطة الفلسطينية، بصرف النظر عن نتائج أي انتخابات. وهذا المبدأ، برغم بديهيته، كان هو الذي ظل غائباً طوال سنوات الانقسام التي دامت عقداً ونصف العقد من الزمن. وكأن طرفي الانقسام لم يتعلما منها الدرس الوحيد الذي كان يجب تعلمه.
الإقرار بالمبدأ، والتعهد بصونه واحترامه، سوف يعني أن السلطة تبقى موحدة، كائناً من كان الفائز بها، وكائنة ما كانت السياسات التي سوف يتبناها. وهو مبدأ يُحرم التمرد على السلطة، ويحول دون أن تخضع من جديد لانقلابات من قد يحملون السلاح ضدها.
حمل السلاح ضد السلطة، سيُعد جريمة من نوع جرائم الخيانة العظمى، مما لا يترك مجالاً للتفاوض ولا للمساومات، ولا لأي تبريرات سياسية.
ثانياً، الإقرار بمبدأ مدنية النظام السياسي. وهو ما يعني وضع فاصل بين مؤسسة الدولة، وبين الحزب ؛أو الفصيل أو التحالف؛ الحاكم. الدولة، هي في الواقع مؤسسة مدنية مستقلة، ابتداء من مديريها العامين نزولاً إلى آخر موظف فيها، بمن فيهم الشرطة، وجهاز الأمن.
يمكن للحزب أو الفصيل الحاكم أن يعين وزراء لقيادة وزارات الدولة، ووكلاء للإشراف على تنفيذ السياسات المطلوبة، إلا أن الإدارة العامة تظل مستقلة بواجباتها وموظفيها.
لا يهم من يحكم، ولكن، ليس من المعقول أن يكون جهاز الأمن فتحاوياً، ولا حمساوياً. ولا باقي أجهزة الإدارات الحكومية الأخرى، ذلك لأن لكل منها عملاً مدنياً يفترض ألا يكون مرتبطاً بسياسة حزبية خاصة.
وثالثاً، استقلال القضاء التام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعن سلطة الرئيس نفسه.
لقد جرت العادة أن تُسن تشريعات وقوانين وأن يكون هناك دستور يكفل استقلال القضاء، ويضمن الحريات العامة والمساواة وحقوق الإنسان. ولكن ماذا اكتشف الفلسطينيون في ظل سلطة الرئيس عباس، قبل الانقسام وبعده؟
لقد اكتشفوا أن القضاء – بما فيه المحكمة الدستورية نفسها – ليس إلا دمية بيد الرئيس، يعين فيه من يشاء ويزيح عنه من يشاء.
اكتشفوا أن قضاءً يقوم على أساس حسابات سياسية لا يمكنه أن يكون قضاء أصلاً، دعك عن أن يكون مستقلا.
ولقد اكتشفوا أن لدى كل من سلطتي الانقسام سجناء سياسيين، في دلالة قاطعة على أن السلطتين ظلتا تنتهكان كل القيم والاعتبارات القانونية والدستورية التي سبق أن تم تسطيرها على ورق بناء الدولة، حتى ثبت أنها دولة لا تساوي قيمة ذلك الورق، لأن أحداً لم يحترم ما كان مكتوباً فيه.
من الخير أن يتعهد الرئيس والنواب المنتخبون للمجلس التشريعي، باحترام ما هو مكتوب على الورق على الأقل، بدلاً من الذين يكتبونه، ويحولونه إلى ممسحة.
لقد ذهب الفلسطينيون إلى انتخابات من قبل، ليكتشفوا أنهم انتخبوا وهماً، وفصائل انتهاكات، وسلطة ترعى نفسها، ومسلحين يتجرؤون على التمرد، وخطابات تحرر مخادعة، وجهازاً حكومياً لا يصلح لإدارة قرية. ويزعمون، بالرغم من كل ذلك، إنهم يستحقون أن يحظوا بدولة، هم الذين لم يفعلوا شيئاً أكثر من أنهم دمروا أسس بنائها واحداً بعد الآخر.