الضمانات المستعصية ومسارات المفاوضات النووية
تتجه المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران لمرحلة جديدة من التطورات المفصلية المرتبطة بالمساعي الأوروبية للتوصل إلى اتفاق.
خاصة مع تضارب ردود الفعل الإيرانية المتعلقة بالرد على ملفات العقوبات، والضمانات الاقتصادية، والتعامل مع مطلب إيران بإغلاق تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن العثور على آثار يورانيوم في 3 مواقع سرية، وإجراءات رفع التجميد عن الأرصدة الإيرانية، والإفراج عن السجناء، ورفع العقوبات الرئيسية في القطاعات الاستراتيجية.
ومع استمرار المراوغات الإيرانية، فإن هناك سلسلة خطوات سيتعين تنفيذها للاستمرار في ما يُطرح، بدءًا بمرحلة تشمل تعليق إيران للتخصيب فوق 5٪.. وكذا اقتصار التخصيب على نسبة 3.67%، وإلغاء تجميد نحو 7 مليارات دولار من الأموال الإيرانية العالقة في البنوك الكورية الجنوبية بموجب العقوبات الأمريكية.
على أن يلي ذلك الشروع في تنفيذ المرحلة التالية لرفع العقوبات، بما فيها الإعفاءات النفطية التدريجية، وضمان استمرار تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تعتمد على واقعية الولايات المتحدة في الرد، وتلبية مطالب إيران، على اعتبار أن حل القضايا المتبقية ليس صعبًا وفقًا للمنطق الإيراني، ولكنه يحتاج إلى إرادة سياسية.
في المقابل، لا يزال الجانب الأمريكي يرى أن السبيل الوحيد للاتفاق هو أن تتخلى إيران عن مطالبها الخارجية والمستجدة، والتي تُطرح في كل جولة تفاوض، في إشارة إلى مطالب إيران بإغلاق تحقيقات الوكالة الدولية، وإبعاد “الحرس الثوري” عن قائمة الإرهاب.. وضرورة الخروج من دائرة التفاوض المفتوح، والتي استمرت 11 شهرًا، شابتها الفوضى والتشعُّب لسبب رئيسي، هو إصرار إيران على ملف الحرس الثوري، مع العلم أنه سواء قبلت طهران وواشنطن العرض النهائي من الاتحاد الأوروبي لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015 أم لا، فمن غير المرجح أن يعلن أي منهما إلغاءه، لأن إبقاءه يخدم مصالح الطرفين، وسيكون من الصعب استخدام الضغط الاقتصادي لإرغام إيران على مزيد من الحد من برنامجها النووي، بعد الانسحاب من الاتفاق عام 2018 إذا واصلت بعض الدول شراء النفط الإيراني.
وقد مثّل ارتفاع أسعار النفط -الناجم عن العملية الروسية في أوكرانيا- طوق النجاة الاقتصادي والسياسي لإيران.
الأمر الذي ساعد في إقناع المسؤولين الإيرانيين بأنهم قادرون على التريث والانتظار التكتيكي، وتحمل العقوبات الغربية إلى حين توقع التعامل مع أي سيناريو مطروح قد يخدم إيران.
وترى إدارة الرئيس بايدن أن إيران انتهت من القيود النووية للاتفاق، بل وقامت بتكديس مخزون أكبر من اليورانيوم المخصب، وتخصيب اليورانيوم حتى درجة نقاء 60% بما يزيد كثيرا على الحد البالغ 3.67% بموجب الاتفاق، واستخدمت أجهزة طرد مركزي متطورة بشكل متزايد، وهو ما قد يعوق أي مساعٍ حالية للتوصل إلى أي اتفاق.
من غير الواضح إذًا ما إذا كانت إيران قررت عدم إحياء الاتفاق، أو لم تتخذ قرارًا نهائيًّا، لكن في كلتا الحالتين من المحتمل أن تخدم فترة تعليق الاتفاق تلك مصالح إيران، حيث كان الوسيط الأوروبي قد اقترح أن توافق إيران على معالجة مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، بافتراض أنه إذا تعاونت إيران، فإن الولايات المتحدة والأطراف الأخرى في المحادثات ستحث مجلس الدول الأعضاء في الوكالة الدولية على إغلاق التحقيق، بإقرار أن هذا هو الاتفاق النهائي، الذي سيُقدَّم ويُطرح بالفعل لإحياء الاتفاق النووي.
ومن ثم فإنه إذا وافقت جميع الأطراف، فسيضع ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية في موقف صعب، مع تنفيذ الاتفاق وتأثيره في تقييمها الاستراتيجي الشامل لتعاون وامتثال الجانب الإيراني.
اللافت أن تحقيق الحد الأدنى للمتطلبات الإيرانية يرتبط بتمسك إيران بطلب ضمانات شاملة من الإدارة الأمريكية بشأن نطاق ومجال العقوبات التي سيتم رفعها عن الشركات والكيانات والأفراد، وألا تنسحب الإدارة الأمريكية مجددًا من الاتفاق النووي.. وعلى أن تتعهد الولايات المتحدة بحصول إيران على تعويضات أمريكية عن أي خسائر تنجم عن انسحاب أمريكي محتمل في المدى المنظور.
إيران ستستمر في ضخ الغاز في مئات من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، ضمن سياق خطة إيرانية لتسريع تخصيب اليورانيوم بهدف بلوغ 190 ألف وحدة فصل، وبما يتناسب مع الحاجة الداخلية، وتطلق وحدة الفصل على حركة أجهزة الطرد المركزي.
إذ يشار إلى أنه في يونيو 2018 أمر المرشد الإيراني منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بالوصول إلى 190 ألف وحدة فصل.. حيث تعادل تطلعات الوصول إلى 190 وحدة فصل 30 ضعفًا من القدرات التي ينص عليها الاتفاق النووي.
في المجمل، فإنه من غير المرجح أن تؤدي مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران إلى نتائج مباشرة على المدى القصير، وحتى إذا كان هناك اتفاق، فإن إمدادات النفط الإيراني لن تدخل السوق الدولية حتى عام 2023، حيث لا تزال العقبات الجوهرية في المفاوضات قائمة، خاصة أن مطلب إيران بضمان عدم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق المحتمل هو مطلب ليس لدى الولايات المتحدة القدرة ولا الرغبة في تقبُّله.
ولدى إيران أيضًا حوافز ضعيفة للاتفاق، لأنها تصدّر حاليًّا مليون برميل من النفط يوميًّا، ومن ناحية أخرى، فهي تتقدم في أهدافها النووية متوسطة المدى.. وأنه إذا تم إحياء الاتفاق النووي وعودة النفط الإيراني إلى السوق العالمية، فسيكون السعر المتوقع لبرميل نفط خام برنت في عام 2023 أقل بخمسة إلى عشرة دولارات من المستوى المتوقع عند 125 دولارًا.
تبقى الإشارة إلى أسباب إصرار إدارة بايدن على التوصل إلى الاتفاق، فقد تكون له تبعاته مع الحاجة إلى تحقيق إنجاز على صعيد السياسة الخارجية، والأمل في أن يؤدي حل الإشكالية النووية إلى انخفاض في توترات الإقليم، ما يسمح لواشنطن بتحويل انتباهها إلى منطقة المحيط الهادي والهندي والحرب المستمرة في أوكرانيا، فيما يرى بعض منتقدي الاتفاق أنه كان ينبغي أن يتعامل “بايدن” بحسم مع تطوير الصواريخ الإيرانية وسلوك إيران في المنطقة، فيما سيبقى الرهان بأن إيران أصبحت أقرب بكثير لإنتاج سلاح نووي بسبب هذا المستوى من تخصيب اليورانيوم.
سيبقى الهدف المركزي هو العودة إلى الصفقة الأصلية برفع العقوبات عن إيران، مقابل قيود على أنشطتها النووية لتمديد الوقت الذي ستحتاج إليه لإنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصّب لصنع قنبلة ذرية.