اخترنا لكم

الغرب وتغيير مسار كييف


لا يختلف اثنان حول المعضلة الصعبة، التي وجدت أوروبا نفسها في مواجهتها جراء النزاع الروسي الأوكراني.

إرهاصات المعضلة لاحت في البداية بلَبوسها الأمني-العسكري، فتداعت عواصم القرار الأوروبي إلى ترميم هياكلها العسكرية وفعّلت الكثير من احتياطاتها وإجراءاتها الأمنية، وأجْرَت تحديثاتٍ واسعة عليها، وأخذت تعيد حساباتها استنادًا إلى مرتكزاتها، دون أن تهمل في بداية الأزمة تلازُم واقعها واحتياجاتها مع شرايين الغاز والقمح الروسيين، ما أثار بعض الانقسامات داخل البيت الأوروبي حين رفضت المجر وبولندا تأييد العقوبات الغربية على روسيا.

اليوم يُفصح الواقع الراهن عن حالة أوروبية غير معتادة في نهجها وسياساتها الداخلية والخارجية.

فداخل مجتمعاتها تبدو الطبقة السياسية منهمكة في ترتيب أولويات بيتها، انطلاقًا من قناعة استمرار النزاع الروسي الأوكراني والتعايش معه وفق خطّين متوازيين، تُمثل أحدَهما روسيا وحلفاؤها، بينما تمثل الخطَّ الثاني أوكرانيا وداعموها من الغرب، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه القناعة تعكس بوضوح حيرة أوروبا المتضررة من النزاع وتداعياته الأمنية والعسكرية وقلقها الاستراتيجي بسبب عوامل اقتصادية متعلقة بحاجاتها الطاقوية الروسية من جانب، وعدم توفر بدائل محلية أو على مستوى القارة في الفترة الراهنة قادرة على تعويض نقص أو انعدام الطاقة والقمح الروسيين ومشتقاتهما لديهم من جانب آخر.

خارجيا، يتماهى الاتحاد الأوروبي بشكل تام مع التوجه الأمريكي والسياسة، التي تقودها إدارة الرئيس جو بايدن في هذا النزاع. لم تطرح أيُّ دولة أوروبية بدائل سياسية أو دبلوماسية عملية ومتكاملة توحي باستقلالية الرؤية الأوروبية لواقع النزاع وتجلياته وما يمكن أن يسفر عنه على الصعيد الأوروبي والعالمي.

تبنّى الاتحاد الأوروبي بغالبية دوله جميع العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا.. السؤال المطروح: هل لا تزال الدول الأوروبية المؤثرة قادرة على لعب دور الوسيط بين موسكو وكييف؟ وهل تمتلك خِيارًا مستقلا في ذلك تستطيع إقناع واشنطن بمبرراته وحيويته للأوروبيين وللعالم؟ وإلى أي مدى تستطيع التأثير في القيادة الأوكرانية لقبول صفقة محتملة مع الكرملين تضع حدًّا للحرب وتفتح صفحة جديدة ترسم وتحدد وتحفظ حقوق الطرفين؟

قرار موسكو وقف إمدادات الغاز إلى أوروبا ينطوي على دلالات عدة، منها محاولة روسية للتأثير في عواصم القرار الأوروبي وتنبيهها إلى الصعوبات الهائلة، التي تترتب عليها وعلى مجتمعاتها إذا ما بقيت منسجمة مع السياسة الأمريكية ومغذّية لها عبر الدعم العسكري والاقتصادي لكييف، إضافة إلى دلالة أخرى ذات أهمية استراتيجية تتجلّى في قرار موسكو توظيف الطاقة ضمن سياقات الدفاع عن مصالحها والقول إن الرد على العقوبات الغربية اقتضى “ردًّا مؤلمًا” من جانبها.

ليس من السهل على دول الاتحاد الأوروبي النأي بنفسها عن مسارات السياسة الأمريكية المتعلقة بالنزاع الروسي الأوكراني رغم أن أوروبا والأوروبيين هم أكثر المتضررين منه ومن تشظياته المختلفة، لكن المعاناة في المجتمعات الغربية جراء النزاع باتت تتفاقم على مستويين، الأول اجتماعي مرتبط برفاهية الإنسان الأوروبي التي اعتادها، والثاني سياسي-اقتصادي، حيث باتت فاتورة الاصطفاف الغربي تُثقل كاهل ميزانيات الدول من جانب، وتقلص من جانب آخر تأثيرها السياسي في مجريات النزاع، كونها تنخرط في التخندُق مع طرف ضد آخر، وهو ما يفسر دعوات الرئيس الفرنسي، ماكرون، في غير مناسبة إلى فتح حوار مع موسكو، وكذلك بروز مواقف داخل أروقة السياسة الغربية توحي بالتذمر عندما تتساءل عن فاتورة التكلفة الباهظة، التي تتحملها القارة جراء استمرار النزاع، فضلا عن أصوات سياسية حاكمة وحزبية معارضة تنتقد ما تصفه “الانجرار” خلف السياسة الأمريكية في النزاع الروسي الأوكراني وغياب نهج أوروبي مستقل في إدارته، علاوة على مطالبتها بضرورة الانفتاح -ولو نسبيًّا- على الحوار مع موسكو، يضاف إليها تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ستولتنبرغ، خلال اجتماع مشترك للجنتَي الدفاع والخارجية في البرلمان الأوروبي قبل أسابيع حول تركيز الحلف على مساعدة أوكرانيا عسكريا وليس على انضمامها له.

الضغوط الاقتصادية، التي تكابدها دول الاتحاد الأوروبي، ليست نابعة فقط من انعكاسات النزاع الروسي الأوكراني المستعر، بل إن جذورها تمتد إلى سنوات سابقة، حيث التضخم والكساد ثم جائحة كورونا وما رافقها من متاعب وتحديات، وكلُّها مثلت تداعياتٍ مباشرة على استقرار دوله وشكلت عناصر ضغط على السياسات الأوروبية الراهنة، على أمل إنهاء الحرب أولا كسبيل للخروج من أزماتها تاليا.

وقائع التاريخ، القريب منه والبعيد، تنبئ بأن أوروبا ظلت مسرحًا محوريا للصراع على المكانة والنفوذ بين القوى العظمى، واليوم ومع تفاعلات النزاع بين كييف وموسكو، يلفحها لهيبُ النزاع، وتستنزف مجرياتُه خزائنها، وتؤثر تحدياته في مكانتها، وتبدو كأنها أسيرتُه. أوروبا، صاحبة المصلحة الحيوية الأهم في إنهاء النزاع الروسي-الأوكراني، تحتاج إلى إطلاق مبادرة، كما اعتادت في مختلف الأزمات العالمية، وإقناع الأطراف جميعها -بما فيها واشنطن وكييف- بأهمية الحوار، وبضرورة سلوك مساره للحد من التفاعلات السلبية على أوروبا والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى