اخترنا لكم

بداية غير موفقة لبايدن!

د.عبد المنعم سعيد


بقيت أيام قليلة ويدخل الرئيس المنتخب جو بايدن إلى قاعة الكونجرس المهيبة لكي يقسم اليمين المقرر.

ومن بعدها يذهب إلى البيت الأبيض لكي يكون الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.

أصبحت أمريكا، ومن بعدها العالم، أمام إدارة جيدة تقودها شخصية تختلف كثيرا عن سابقتها؛ بقيادة جو بايدن ابن المؤسسة الأمريكية العريقة الذي عمل كنائب في الكونجرس منذ عام ١٩٧٣، وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهو نائب الرئيس أوباما لثماني سنوات، ولكنه أيضا الرجل غير المحظوظ مرتين للحصول على تمثيل الحزب الديمقراطي في انتخابات ٢٠٠٨ و٢٠١٦؛ ولكن الحظ ابتسم له كما لم يبتسم من قبل، وفاز بترشيح الحزب في انتخابات ٢٠٢٠.

وصل الرجل إلى القمة، ولم تفلح مناورات ترامب القضائية في التشكيك في نزاهة الانتخابات، هزم الرئيس في ٦٠ قضية أمام المحاكم، وفي ٨ ديسمبر أعطت الولايات شهادة التصديق على النتيجة، وفي ١٤ ديسمبر جرى التصديق عليها مرة ثانية أمام المجمع الانتخابي، وفي ٦ يناير الجاري بات على الكونجرس بمجلسيه أن يصدق على النتيجة، واجتمع الديمقراطيون والجمهوريون على التصديق على رئاسته.

وصل بايدن إلى القمة، وأصبح الرجل الآن على شفا أيام من دخول البيت الأبيض “الذي سوف يوحد منه الأمريكيين، ويقضي منه على البلاء، ويعود بأمريكا إلى قيادة العالم” كما نشر في دورية “الشؤون الخارجية” منذ شهور.

الرئيس واضح في أولوياته التي كتبها وتحدث بها طوال العامين الماضيين، ولكن طريقه إلى هذا الهدف النبيل هو ما سوف يفعله داخل أمريكا لتوحيد الأمة الأمريكية، ويتغلب على وباء “كوفيد- ١٩”، كلاهما ليس أمرا سهلا، ولكنه يعلم جيدا أن الثانية يمكنها أن تكون طريقا إلى الأولى، فيذهب الوباء ومعه الانقسام الأمريكي الذي لا يقل عنه خطورة، ولو أضاف لها مشروعا طموحا لإصلاح وتطوير البنية الأساسية الأمريكية التي تدهورت كثيرا خلال الأعوام والعقود الماضية، فربما يكون قد قطع الطريق إلى الولاية الثانية أو نصفه على الأقل.

في السياسة الخارجية هو يريد العودة بسرعة إلى اتفاق باريس الخاص بالاحتباس الحراري، وإعادة الوحدة إلى “المعسكر الغربي”، والذي أحيانا يقول عنه إنه “المعسكر الديمقراطي”، بينما يضع اللعبة الاستراتيجية مع الصين وروسيا على أسس تنافسية وليست صراعية.

والحقيقة أن بايدن تكونت لديه فرصة ذهبية لتغيير البيئة السياسية الأمريكية، نظرا لما اعتراها طول الأعوام الماضية من انحراف نحو اليمين الأبيض القومي، والتي رغم وجودها قبل وصول دونالد ترامب إلى السلطة، فإن الرجل جعل منها حركة سياسية كبرى لم تنجح فقط في أخذه إلى البيت الأبيض، وإنما إلى الانتشار في العالم كله. وإذا كان لدى بايدن أي شك في هذه الحقيقة فإن ٧٥ مليون أمريكي صوتوا للرجل.

توحيد الدولة ووضعها على مسارها الصحيح باتا ممكنين نتيجة تجمع مجموعة من الظروف التي أعطت له وحزبه الديمقراطي الفرصة الكبيرة لتصحيح المسار الأمريكي، وربما إعادة أمريكا لاكتشاف نفسها من جديد.

أكثر من ذلك فإن ترامب أعطى بايدن والديمقراطيين فرصة ذهبية كبرى عندما قام بتحريض مناصريه على الهجوم على مبنى “الكابيتول”، بينما الكونجرس منعقد بقيادة نائبه مايك بنس للتصديق على نتيجة الانتخابات. لم يكن هناك أمر غير خارج عن المألوف، ولا خارج عن القواعد القانونية، وكان واضحا أن هناك ما يكفي من الجمهوريين للتأييد مما يجعل التصديق تحصيل حاصل، ولم تنجح لا المحاولات ولا المناورات التي قام بها مجموعة من أعضاء مجلس النواب والشيوخ الجمهوريين في إعاقة عملية التصديق هذه.

والحقيقة هي أن التطورات التي قادت إلى أزمة اليوم السادس من يناير الجاري كان فيها من عورات الحزب الجمهوري عامة والجناح الترامبي منه خاصة ما يكفي لكي تتحقق أهداف بايدن، فكما هو معلوم أجرى ترامب من خلال رئيس موظفي البيت الأبيض مارك ميدوز بمكالمة هاتفية مع سكرتير ولاية جورجيا “براد رافنسبرجر”، داعيا إياه إلى “إيجاد ١١٧٨٠ صوتًا” تضم إلى أصوات ترامب وتجعلها تزيد بصوت واحد أكثر من هامش فوز جو بايدن في جورجيا.

اقترح ترامب أن يتم إجراء هذا التغيير في إحصاء الأصوات الانتخابية المصدق عليها قانونًا في جورجيا من خلال “القول، كما تعلم، أنك قد أعدت الحساب”، وبذلك يصبح “بطلاً قومياً”. من خلال هذا السلوك في كلتا الحالتين، بالإضافة إلى احتمال انتهاك قانون ولاية جورجيا، استخدم ترامب مرة أخرى سلطته الرسمية لغرض التدخل في الانتخابات الرئاسية أو التأثير عليها. أكثر من ذلك قام ترامب بتأجيج النيران التي أدت إلى أحداث ٦ يناير لشهور بمزاعم لا أساس لها من تزوير الانتخابات. وقبل ساعات فقط من هجوم الغوغاء المميت، خطب في تجمع حاشد مشجعا جماهيره، الذين تجمعوا بالآلاف في العاصمة، على “القتال بقوة أكبر” والتوجه نحو مبنى الكابيتول “لإظهار القوة”. كل ذلك خلق الكثير من المكاسب السياسية والأخلاقية لبايدن التي لو استخدمت بحكمة لربما كانت هناك فرصة حقيقية لتخفيض الشعبية الكبيرة والمتعصبة الموجودة لترامب وفلسفته في الشارع الأمريكي.

أكثر من ذلك أنه باتت هناك ظواهر حقيقية تؤكد وجود انقسام داخل الحزب الجمهوري، وأكثر من ذلك وجود مراجعة من قبل المؤيدين لترامب لسحب هذا التأييد، ظهر ذلك عندما رفض نائب الرئيس الجمهوري تعطيل دوره الدستوري في قيادة مجلس الشيوخ رغم إلحاح ترامب وتمت عملية التصديق على نتيجة الانتخابات.

ومع ذلك فإن الديمقراطيين بقيادة نانسي بيلوسي -رئيسة مجلس النواب- ودون اعتراض واضح من بايدن باتوا مصممين على الانتقام من ترامب، بما بدا كما لو كان منع الرجل من الترشح مرة أخرى أكثر أهمية من تحقيق البرنامج الانتخابي للرئيس الجديد، وكانت البداية في الضغط على نائب الرئيس مايك بنس لتطبيق المادة ٢٥ من الدستور الأمريكي والتي تقضي بعزل الرئيس حال فقدانه القدرة على اتخاذ القرار، ولكن بنس رفض ذلك استنادا إلى أنه يستحيل تطبيق المادة، وأكثر من ذلك أن عددا كبيرا من أعضاء الحكومة إما أنه استقال، وإما أن الموجودين منهم الآن مجرد نواب لسابقيهم ولم يتم لا تعيينهم ولا بالطبع تصديق الكونجرس على التعيين، ولما ظهر أن ذلك مستحيل اتجه الديمقراطيون في اتجاه إقامة الاتهام على ترامب للمرة الثانية خلال عام واحد، رغم العلم التام أنه سوف يستحيل الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة لتوفير الإدانة في مجلس الشيوخ، خاصة أن الاتهام كما هو مكتوب يخلق عشًّا للدبابير من الجدل القانوني، وكيفية إثبات “التحريض” ومعنى “التمرد”.

النتيجة السياسية لكل ذلك، حتى بغض النظر عن الفشل المباشر في إدانة ترامب ومنعه من الترشح مرة أخرى، هي عجز بايدن عن تحقيق الهدف الذي عزم على تحقيقه؛ وهو تحقيق الوحدة بين الأمريكيين وعبور الفجوة بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري. هي بداية غير موفقة لبايدن، تغلبت فيها الغرائز على الحكمة، والتكتيك في المكسب الإعلامي والسياسي العاجل على الاستراتيجية العليا لتغيير أمريكا في اتجاه فاضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى