اخترنا لكم

تعويم العملة.. لا تخافوا لكن احذروا الغرق!


التعويم في علوم الاقتصاد ببساطة هو رفع الدولة -ممثلة في بنكها المركزي- يدها عن أسعار الصرف وتركها لآليات العرض والطلب تتحرك في السوق بحرية، وغالبا ما تلجأ البنوك المركزية لهذا الأمر حينما تستنفد كل الوسائل لإنقاذ الاقتصاد.

وإذا أخذنا الحالة المصرية مثالا، فإن الاقتصاد فيها مر بظروف مشابهة للتي يمر بها اليوم في أكثر من فترة، ففي فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات جاء أول تعويم حقيقي للجنيه المصري عندما سمح “السادات” بعودة البطاقات الاستيرادية للقطاع الخاص، وبدء حقبة الاقتراض من الغرب، والتي تحولت فيما بعد لما سُمي بـ”ديون نادي باريس”.

ونادي باريس هو تجمع يضم 22 عضوًا دائمًا مانحًا للقروض، ويمكن للدول الدائنة الأخرى المشاركة في اجتماعات التفاوض على أساس كل حالة على حدة، بشرط استيفاء شروط معينة.

وتنقسم ديون نادي باريس إلى مساعدات تنموية رسمية، وديون غير تنموية، ويمكن دعوة ممثلي المؤسسات المالية الدولية أو البلدان الأخرى لحضور اجتماعات النادي بصفة “مراقب”.

راقب “السادات” الوضع الاقتصادي لمصر حينها واكتشف أنه لم تكن لديه القدرة على تحرير الموازنة العامة عام 1977، وعدم استمرار تدفق الاستثمارات الخارجية والضعف الاقتصادي العام في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فحدثت أزمة دولارية مرة أخرى، وتحرك سعر الدولار رسميا من 1.25 جنيه إلى 2.5 جنيه، ما أدي إلى إفلاس كثيرين، حيث كان القطاع الخاص المصري يقترض بالدولار من البنوك ويعمل بالجنيه.

الجنيه المصري تعرض لتعويم آخر في عهد حكومة عاطف عبيد، وتحديدًا في 28 يناير 2003، حين وقف رئيس الوزراء المصري ليعلن بالإنجليزية في مؤتمر المائدة المستديرة السنوي لمجلة “الإيكونوميست”، ليخبر الحاضرين وبنوك الاستثمار بأن حكومته قد قررت التخلي عن مساندة الجنيه، معلنًا ميلاد السوق الحرة لصرف العملات الأجنبية، حيث تحدد السوق سعر الصرف وتقوم البنوك بجميع الصفقات.

صفقة تعويم الجنيه المصري -إنْ جاز الوصف حينها- مرت بخطوات على استحياء في عامي 2001 و2002 لتخفيض سعر الجنيه المصري أمام الدولار، حيث انتهت إلى ارتفاع سعر الدولار من 3.85 جنيه إلى 4.51 جنيه، إلى أن أعلن محمود أبو العيون، محافظ البنك المركزي وقتها، أنه اعتبارًا من صباح 28 يناير 2003 ستحدد كل البنوك العاملة في مصر أسعار الصرف الخاصة بها بصورة مستقلة.

الصورة على ما يبدو لم تكن أيضا واضحة أمام “أبو العيون”، إذ أدى القرار إلى ارتفاع سعر الدولار في السوق الرسمية إلى 5.861 جنيه في المتوسط وصولا إلى 6.194 العام التالي، قبل أن يتراجع قليلا إلى 5.791 في عام 2005، وسرعان ما نما في السوق الموازية ليتخطى 7 جنيهات بحلول منتصف العام نفسه، في الوقت الذي كان السعر قد وصل إلى 6 جنيهات في السوق الرسمية.

رسميا التقط فاروق العقدة زمام الأمور من “أبو العيون” في البنك المركزي المصري في ديسمبر 2005، وجرى التراجع عن قرار تعويم الجنيه، لكن البنك المركزي كان قد رفع الفائدة خلال الفترة من يناير إلى يوليو بنسبة 9% تقريبا لتصل إلى 13%، وهو إجراء يصاحب تراجع العملة المصرية مقابل الدولار لزيادة جاذبية الودائع بالجنيه من ناحية، وكبح معدلات التضخم من ناحية أخرى، ما أدى إلى ارتفاع العائد على أذون الخزانة بالنسبة نفسها تقريبًا، وذلك في محاولة لجذب الاستثمارات الأجنبية لسوق الدين المصرية لإقراض الحكومة، مع ارتفاع العائد.

العائد من أحداث يناير عام 2011، كان هروب كميات كبيرة من الدولار من مصر عبر كل باب ونافذة، شرعية كانت أم غير ذلك، وعاد الحديث عن “تعويم حقيقي” للجنيه المصري بعد ثورة 30 يونيو في عام 2013، وبعد ثلاث سنوات -تحديدًا في نوفمبر 2016- قررت مصر تعويم عملتها، وأعلن طارق عامر، محافظ المركزي المصري، القرار الصعب، الذي تأخر 30 عاما تقريبا، وتم تحرير الجنيه ليصل الدولار إلى 19 جنيها في عملية تعويم تُدار تحت رقابة الدولة.

الدولة المصرية، التي تبني جمهوريتها الثالثة، لم تكد تُفيق من تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد المنهك، إلا وفوجئت في 25 فبراير 2022 بصوت مدافع وطائرات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ليرتبك المشهد الاقتصادي المصري -والعالمي- مجددًا، ليسمح البنك المركزي المصري بتحريك العملة أمام الدولار في مارس 2022 لأول مرة منذ قرار تعويم العملة في 2016، في الوقت الذي رفع فيه أسعار الفائدة بنحو 300 نقطة أساس في محاولة منه لامتصاص الموجات التضخمية.

تلك الموجات التضخمية المستوردة هبطت بسعر الجنيه المصري بأكثر من 22%، ليصل إلى 19.16 مقابل الدولار في 4 أغسطس 2022.

السيطرة على انفلات الدولار في تقديري لا بد أن تبدأ من المواطن الباحث عن الادخار الآمن، وكذلك عن استقرار أسواق بلاده ومؤشر أسعار السلع فيها، وذلك عبر عدم المسارعة في شراء الدولار، وإلا سوف يرتفع أكثر وأكثر، كذلك لا بد من عدم الهرولة نحو شراء عملات أجنبية أخرى للمضاربة، لأن هذا الأمر سيزيد التضخم.

وفي بلد يعاني التضخم، ليس معناه ألا نستثمر كمواطنين أو ندخر، بالعكس، هناك أدوات ادخار جيدة، أهمها الاحتفاظ بالدولار في البنوك دون سحبه لأجل سوق سوداء تضرك دون أن تشعر، حيث ستوجه دولاراتك لأثرياء الأزمات، وحال الضرورة لتحويل الدولارات للجنيه عليك شراء شهادات بالجنيه ذات عائد مرتفع، حتى لا يتحول التعويم الاضطراري لحالة غرق تجرف موجاته الجميع، وفيها مدخراتك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى