«نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد وكنت وحدي.. ثم وحدي.. آه يا وحدي» (من أحمد العربي لمحمود دروي).
بعد سلسلة عمليات دموية ضد مصالح أميركية في أفريقيا، أصبح تنظيم «القاعدة»، الحليف السابق للولايات المتحدة أثناء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، الخطر الأمني الأول لها. كانت تلك فرصة العمر لمشروع ولاية الفقيه وأتباعه. لقد أصبح الإسلام السنّي ورموزه وأصوليته على رأس قائمة أعداء العالم الغربي. يعني أنّ الإسلام الشيعي، المتمثّل بولاية الفقيه وأدواته، أصبح في حلف موضوعي مع الغرب. وهنا بدأت مرحلة المداعبات السرية بين المنظومتين، إلى أن أتت الجائزة الكبرى المشتركة لإيران ولإسرائيل في الوقت ذاته. كانت عملية 11 أيلول سنة الشعرة التي قسمت ظهر البعير.
لقد تحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى ثور هائج يبحث عن ضحية لرد الاعتبار، وكان على جورج بوش الابن أن يعيد الاعتبار لبلده بانتقام توراتي الحجم في أهواله، ليس فقط ضد القاعدة، بل ضد المنظومة العقائدية التي أنتجت فكرها، أي الإسلام السني بشكل عام.
بالنسبة لإسرائيل، كانت تلك فرصة لها للانقضاض على الفلسطينيين وتأجيل إمكانية تسوية تاريخية معهم، خصوصاً بعد أن عَلت الزغاريد وآيات التكبير في الضفة الغربية وقطاع غزة احتفالاً «بالانتقام الإلهي» من أميركا راعية إسرائيل في هجوم البرجين. أمّا لإيران، فقد كانت الفرصة الذهبية لشيطنة الإسلام السني في الفقه والسياسة، وتبييض صورة التشييع، حتى في الجزء العنيف منه المتمثّل بالحرس الثوري، على أساس أنه خطر ثانوي بالمقارنة مع الإسلام الآخر!
هنا تحوّل دور رفيق الحريري من المحلي إلى العالمي، فعندما بدأت معالم ما سمّاه ملك الأردن بالهلال الشيعي بالظهور، أصبح رفيق الحريري رأس حربة منظومة تحوي كبريات الدول السنية لتهدئة الغرب وكبح اندفاعاته، وإعادة تظهير صورة الإسلام المعتدل وضرورة التفاهم معه وتَفهّمه، بدل وضع مليار إنسان في خانة الأعداء. أظن أنّ هذه المهمة بالذات هي التي وضعت رفيق الحريري على خط لائحة الإعدام، لمجرد كونه عائقاً أمام أحلام إمبراطورية افتراضية اسمها ولاية الفقيه. فمن الناحية المحلية شكّل رفيق الحريري عقبة صعبة لا يمكن إزاحتها إلّا بتفجيرها، وعلى المستوى الإقليمي القريب، وبالذات السوري، فقد كان مثلاً لزعامة سنية يمكن الاعتداد والتمثّل بها والبناء عليها وعلى مثالها كبديل لمنظومات التخلف والشمولية. أما على المستوى الدولي، فقد شكّل رفيق الحريري العقدة الكبرى لِما راكَم حوله من احترام وصداقات مع قيادات عالمية وازنة.
فشلت منذ العام كل محاولات منظومة الممانعة لإعدام رفيق الحريري سياسياً، فمن مؤامرات إميل لحود الركيكة إلى حَرتقات قيادات سنية صغرى استحضرت من غياهب الماضي لتكون بديلاً له، كلها فشلت بسرعة لا بل زادت من قوته. لقد استوعب رفيق الحريري خطورة منطق التطرف السني وجنوحه نحو العنف الأعمى منذ بداياته الأولى، فأيّد العمل العسكري ضد مجموعة الضنية سنة 2000، وكان السبّاق إلى إدانة عملية القاعدة ضد برجي نيويورك. ومع ذلك فقد استمرت محاولات الإعدام السياسي من باب الاقتصاد يوم أفشَل إميل لحود عن قصد مفاعيل باريس 2، مفضّلاً إفلاس البلاد على إعطاء فرصة النجاح لمشروع رفيق الحريري.
في ذلك الوقت أدرك رفيق الحريري استحالة إنقاذ لبنان من دون الإفلات من القبضة الأمنية السورية. لم يعد بالإمكان بعد كل المحاولات السابقة الفاشلة مع نظام الاسد، الخروج بتسويات في لبنان لا تقتل الديب ولا تفني الغنم، فقد كان حلم رفيق الحريري الأساسي هو إقناع النظام السوري بأنّ مصلحته تقتضي بأن يدخل في شراكة مع لبنان بدل استتباعه. لكن ما كان أملاً ضئيلاً في أيام حافظ الاسد الواثق بنفسه، أصبح مستحيلاً مع بشار الاسد الضعيف الشخصية، والحاقد أصلاً على رفيق الحريري الذي لم يُعره الاهتمام أثناء وجود والده.
مع بشار الأسد عادت فرصة استهداف رفيق الحريري لتلوح في الأفق من قبل مشروع ولاية الفقيه، ومع احتلال العراق من قبل الجيش الأميركي، تَفاقم رعب بشّار من أن يكون دوره آتياً، وأصبح مقتنعاً بأنّ رفيق الحريري جزءٌ من مؤامرة دولية عليه.
تسارَعت الأمور عشيّة نهاية ولاية إميل لحود، وباءت بالفشل كل محاولات ثَني بشار عن فرض التمديد، وصدر القرار الأممي الشهير الذي دانَ التدخل الخطير للنظام السوري في المسار الديموقراطي في لبنان مطالباً بانسحاب قواته ونزع السلاح غير الشرعي بكافة أشكاله. هنا وضع رفيق الحريري على رأس قائمة الاتهام من قبل نظام بشار الأسد والحزب معاً، على أساس فرضية أنّ صداقات الحريري الدولية، وبالأخَصّ مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ساهمت في إصدار هذا القرار. في تلك اللحظة بدأ التحضير العملي لعملية الاغتيال، بحسب المعطيات التي ظهرت في المحكمة الدولية، وبدأ نشاط شبكة الاتصالات الشهيرة التي أسّست لاتهام 5 من كوادر «حزب الله» بتنفيذ العملية. كل ما حصل بعدها، بحسب قناعتي، أصبح تفصيلاً، فلقاءات الحريري المكوكية الودية مع حسن نصر الله لم تكن مجدية في إقناع الأخير بحسن نوايا ضيفه، كما أنّ انتقال رفيق الحريري إلى صفوف المعارضة والسعي إلى بناء تحالفات مع رافضي الوجود السوري في لبنان زاد في حنق بشار الأسد، لكنّ قرار الإعدام كان قد سبق كل ذلك.
سأتجاوز هنا حملات الشتائم التي أطلقها توافه أتباع نظام الاسد في لبنان عشيّة اغتياله، فهي بالتأكيد لا تعني أنّ مَن أطلقها يومها كان متورطاً بالجريمة، فلا أحد يعطي الدليل على جريمته قبل القيام بها، حملة الشتائم تلك كانت مجرد تعبير أحمق عن حقد بشار تجاه الحريري. الخطر الحقيقي كان من صمت القبور الذي خَيّم على جماعة «حزب الله»، باعتبار أنهم أكثر وقاراً من حلفائهم الشتّامين.
إغتيل رفيق الحريري، وكان رد الفعل الشعبي المنطقي المبني على تجارب سنوات الاحتلال السوري هو أنّ بشار الأسد هو من أصدر الأمر، وأنّ المنظومة الأمنية التابعة له هي من نفّذت. على الرغم من شكوك عابرة حول عدم إمكانية حصول عملية ضخمة ومعقدة كعملية 14 شباط من دون علم أمن «حزب الله»، تجاوزت عائلة الرئيس الحريري والقوى التي سانَدتها هذه الفرضية، وقررت الذهاب إلى تسويات داخلية كان عنوانها التحالف الرباعي، أملاً في إقناع الحزب بفك تحالفه مع نظام الأسد القاتل.
أظن أنّ تلك اللحظة كانت يوم السعد لـ»حزب الله»، والأسعَد كان يوم خروج القوات السورية عندما تخلّص من شريكه المضارب، وأصبحت الفرصة متاحة للتمدد أمنياً وسياسياً على كل مساحة لبنان تحت شعار المقاومة حيناً، وتحت غفلة قوى 14 آذار أحياناً. عندما تحدّث ملك الأردن عبد الله الثاني بُعَيد دخول الولايات المتحدة إلى العراق عن هلال شيعي، ظنّ الكثيرون أنه مجرد تصوّر مضخّم لأمر لا يمكن أن يحدث. لكنّ الوقائع التي تتابعت بعد ذلك دفعت قيادة مشروع ولاية الفقيه إلى رفع رايات النصر وإعلان الهلال الشيعي، وكانت الإشارة واضحة عندما أسقط جبران باسيل حكومة سعد الحريري لحساب إيران، معلناً أنّ أي حكومة ستأتي في لبنان ستكون حتماً تحت عباءة حسن نصر الله، وبالتالي ولاية الفقيه.
لم يعد هذا المشروع بعدها محتاجاً لممارسة التقية، فقد صرّح القيّمون عليه مراراً بأنهم سيطروا على 4 عواصم عربية بعد أن دفعتهم البهجة إلى التمدّد نحو اليمن وكَسر كل الخطوط الحمر وتحدي كل المنظومات القائمة. بعد 15 سنة على اغتيال رفيق الحريري، تكشّفت شيئاً فشيئاً أسباب اغتياله، لم يكن اغتياله مسألة معزولة عن المشروع الإيراني، بل كان محطة أساسية على طريق غزوة الولي الفقيه للدول العربية، الغزو الفارسي المتلبس عباءة التَشيّع. رفيق الحريري سقط شهيداً في مواجهة الغزو الفارسي، ولبنان اليوم هو الشهيد الثاني.
* نقلا عن “الجمهورية”