اخترنا لكم

معانٍ إنسانية وسياسية في تنصيب الملك تشارلز


في طقوس ملكية لم تشهدها بريطانيا منذ أكثر من سبعة عقود، صار الأمير تشارلز “ولي العهد سابقًا” ملكًا على المملكة المتحدة، خلفًا لوالدته الراحلة الملكة إليزابيث الثانية.

مشهد لم يره من قبل إلا من بلغ الثمانين.. أي إن أجيالا من البريطانيين ومن مختلف بقاع الأرض تابعت تلك المراسم للمرة الأولى، والتي احتوت طقوسها دلالاتٍ ومعاني شديدة الأهمية.

ما يلفت النظر في طقوس إعلان وفاة الملكة ذلك الاحترام الكبير والتوقير العميق من البريطانيين لملكهم أو ملكتهم. وهو توقير واحترام ليس فقط لشخص تشارلز أو إليزابيث، وإنما في الأساس “للنظام الملكي” الذي يمثل للشعب البريطاني ولشعوب المملكة المتحدة قيمة كبرى تمنحه التماسك والوحدة والكرامة الوطنية.

والمعنى الواضح هنا أن أعرق الديمقراطيات في العالم نظامها ملكي وشعبها سعيد بالملكية ويمارس ديمقراطيته تحت لواء التاج الملكي.. إذ يتمتع البريطانيون بحريتهم كاملة، ويمارسون حياتهم وأنشطتهم السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها وفق أنظمة ليبرالية ورأسمالية.. وانخرطوا في العولمة وفي كل التحولات الجديدة كما لو كانوا أشد الشعوب تحررًا وانفتاحًا.

إذًا فالملكية أو غيرها من أنظمة الحكم التقليدية المشابهة لا تتعارض مع الحرية والانفتاح والتقدم والعصْرنة.. وبالتالي لا تنتفي معها الديمقراطية في جوهرها، وليس شرطا في آلياتها وصيغها التي تختلف من شعب إلى آخر، كل حسب اختياراته ووفقا لخصوصياته. فليس كل الديمقراطية على الطريقة الغربية.

وإن كانت بريطانيا معروفة بأن الملك “يملك ولا يحكم”، فإن هذه المقولة تبخس النظام الملكي البريطاني حقه.. صحيح أن الملك هناك يملك ولا “يدير” لكنه يظل في النهاية “الحاكم” وصاحب الكلمة الأخيرة.. فهو الذي يعلن الحرب وكذلك حالة الطوارئ، وهو الذي يصدّق على اختيار البرلمان لرئيس الوزراء، وكان آخر قرارات الملكة إليزابيث تعيين رئيسة الوزراء الجديدة.

ويحق للملك البريطاني الاعتراض على الشخص المرشح بواسطة حزب الأغلبية.

بشكل عام، كل القرارات المهمة، أو “السيادية” بالتعبير السياسي الحديث، هي من اختصاص الملك حصرًا.

أما رئيس الوزراء والوزراء فمهمتهم هي “إدارة” الدولة وتسيير أمورها الداخلية وعلاقاتها الخارجية.. وبالتالي فحين يتعلق الأمر بمصير واستقرار المملكة المتحدة في سياساتها وتوجهاتها، لا تملك الحكومة البريطانية أو رئيس الوزراء التصرف إلا بموافقة صريحة بتوقيع الملك.

وفي الواقع، دول قليلة فقط تجمع عراقة القيم والتقاليد، والتي تحظى بإجماع شعبي، إلى جانب التقدم والانفتاح والحرية والحيوية على كل المستويات من الفرد إلى المجموع، شعبا وحكومة.. ولا حاجة إلى التذكير بأن دولة الإمارات تأتي على رأس تلك القِلة من الدول التي نجحت في تحقيق هذه المعادلة النموذجية بين دول العالم أجمع.

هناك دلالة أخرى مهمة في مراسم إعلان تولي الملك البريطاني الجديد، وهي أن تشارلز قد يختلف في توجهاته عن والدته الملكة الراحلة إليزابيث، فهو قد طلب قبل وفاة والدته تعديل نص التعهد الذي يقطعه الملك الجديد على نفسه، ليتضمن كلمة “الإيمان” بدلا من “الديانة البروتستانتية”.

ورغم أن ذلك التعهد يتعلق تحديدا بتبعية اسكتلندا لبريطانيا، فإن طلب التعديل ليس إلا واحدًا من عدة مؤشرات ومواقف تكشف أن لدى تشارلز قناعات روحية ودينية مختلفة.

معروف عن الملك تشارلز أنه يحمل نظرة شمولية وعامة للأديان والعقائد.. وهو ما يعني في النهاية أن الملك الجديد سيكون أقل ارتباطًا بالإطار الضيق الذي يمثل المرجعية الدينية لعائلته.

المعنى أن وجود تشارلز على كرسي العرش البريطاني سيحمل معه تحولا -ولو تدريجيا- في هذا الوضع.. ربما ليس إلى حد التخلي عن ذلك التمسك الديني المذهبي، لكن على الأقل باتجاه قدر أعلى من التسامح مع مرجعيات دينية وروحية أخرى.

وعلينا أن نتذكر هنا أن تشارلز قام بزيارة إلى مشيخة الأزهر في نوفمبر 2021 واستقبله شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وأهدى إليه وثيقة “الأخوة الإنسانية”، التي كان وقّعها مع البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، في عاصمة دولة الإمارات عام 2019.

كما يجب أن نتذكر أن دولة الإمارات كانت أولى دول العالم، التي تبنّت هذا التوجه المتسامح ورفعت شعار التعايش الإنساني واعتبار الإنسانية هي المظلة الأساسية الجامعة لكل البشر.

أخيرًا، فإن قراءة مشاهد ودلالات مراسم تنصيب ملك بريطانيا تشارلز الثالث، تؤكد صواب التوجه الذي آمنت به الإمارات وتعمل عليه منذ سنوات طويلة، بأن الأصالة والتمسك بالإرث السياسي لا يتعارضان مع الحداثة.. وأن المعاصرة لا تعني التخلص من الأصول وإنما تحديثها وضمان استمراريتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى