اخترنا لكم

مَن المسؤول عن جوع العالم؟


قبل بضعة أيام، حذر برنامج الغذاء العالمي من أن العالم “يواجه أزمة جوع على نطاق غير مسبوق، وارتفاع أسعار لم يشهد له مثيل من قبل”، وهو ما أكدته أرقام صندوق النقد الدولي.

بيانات البرنامج الأممي تقطع بأن من بين 48 دولة من المرجّح أن تطلب نحو 20 منها مساعدات طارئة، قبل أن تتفاقم “المجاعة” مسببة كوراثَ بشرية.

حديث الجوع ليس بجديد على البشرية، لكنه تصاعد مرتين في العقدين السابقين، المرة الأولى غداة الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، والآن بعد نحو ثلاثة أعوام من الجائحة، التي تسببت في تعطيل سلاسل الإمداد الغذائي، وارتفاع أسعار الحبوب والغلال، وجاءت المواجهة المسلحة بين روسيا وأوكرانيا، لتُدخل العالم في نفق غذائي مظلم، لا سيما فيما يخص الدول النامية والفقيرة.

هل مشهد تدهور الأمن الغذائي يعنينا نحن العرب بنوع خاص؟

المؤكد أن ذلك كذلك، لا سيما أن نحو 141 مليون شخص في العالم العربي معرضون لانعدام الأمن الغذائي، والعُهدة هنا على كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، في تصريحات لها خلال مؤتمر جرى الأسبوع الماضي في العاصمة السعودية، الرياض.

نهار الجمعة الفائت، وضمن فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وافق صندوق النقد الدولي على فتح نافذة جديدة للاقتراض للتعامل مع صدمات الغذاء في إطار أدوات التمويل الطارئة الحالية، لمساعدة البلدان المعرضة للخطر على التعامل مع نقص الغذاء وارتفاع التكاليف، بسبب زيادة الأسعار، التي ولّدتها الحرب الروسية-الأوكرانية.

لا يمكن اعتبار الإقراض من أجل توفير الغذاء حلا إنسانيا بالمرة، إذ سيُراكم المزيد من الديون على فقراء العالم، أولئك المُهانين والمجروحين في إنسانيتهم، من جراء الرأسمالية التي سلّعت البشرية.

وفي الوقت عينه، فإن مجرد فكرة الإقراض تفيد بأن هناك مَن لديه وفرة في تلك السلع من الحبوب والغلال، ولا يتطلع لمساعدة أخوة جوعى في البشرية، وإنما يسعى لمراكمة أرباحه من خلال بيعها لهم بالفوائد، عبر الآليات المالية الأممية كالصندوق والبنك الدوليين.

يكاد المرء يجزم بأن سلاح الحبوب بات ضمن أدوات الحروب الفتّاكة في حاضرات أيامنا، وأُحصي ضمن آليات الشرّ المعاصرة، وليس أدل على ذلك إلا الحصار المفروض على روسيا وحبوبها، كنوع من العقوبات على حربها مع أوكرانيا.

يكفي المرء أن يتطلع لحصاد الحبوب في روسيا هذا العام، والذي تجاوز 150 مليون طن، منها 100 مليون من القمح فقط، وهو رقم قياسي على مدار تاريخ روسيا، وكأن أمّنا الأرض تجود بأفضل ما في رحمها على البشر، فيما هؤلاء يضنُّ بعضهم على بعض، وبخاصة في ضوء التعقيدات التي تواجهها عملية تصدير الحبوب والأسمدة الروسية، ما يزيد من وجع الجوع في أماكن البطن الرخوة عالميا.

هل معسكر الناتو مسؤول عن جوع العالم المعاصر؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك، ولو بشكل جزئي، فالأمر يُفهم منه أن تضرب الحواضن الغربية حصارا قاسيا، لا يصد ولا يرد، على صادرات الأسلحة الروسية، لكن محاولة حرمان روسيا هنا من مداخيل الحبوب، تنعكس على بقية أرجاء العالم غذائيا، وفي هذا ظلم فادح، غير مقبول عقلا أو نقلا.

أوكرانيا بدورها لم تكن أفضل حالا في سياق تخفيف ضغط أزمة الغذاء عن فقراء العالم ودوله النامية، إذ لم يتجاوز ما خرج من موانيها إلى المناطق المنكوبة غذائيا 3% من إجمالي صادراتها، فيما البقية الباقية مضت لجهة أوروبا، كمدفوعات غير مباشرة، في مقابل الأسلحة المتميزة لمواجهة الآلة العسكرية الروسية.

حين تحدث روبرت مالتوس، الباحث السكاني والاقتصادي السياسي الإنجليزي الشهير، عن رؤيته للعَلاقة بين زيادة أعداد البشر، ومحدودية مصادر الغذاء، لم تكن علوم الهندسة الكروموسومية وطرق الزراعة الحديثة قد طفت على سطح الحياة المعاصرة، الأمر الذي يوفر للبشرية مصادر مضاعفة عما كان متاحا في غابر القرون، وبما يُبطل مخاوف “مالتوس”، شريطة أن توجد هناك إرادة سياسية لاستنقاذ العالم.

أزمة الغذاء العالمي تفتح الأبواب واسعة أمام تساؤلات، يعدها البعض من قبيل المؤامرات، وأحاديث تخفيض سكان العالم رابضة خلف الأبواب، لكن حين يطالع المرء تقارير أممية رسمية كما الحال مع تقرير “لوغانو” للعام 1996، يدرك المرء أن وراء الأكمة شيئا وربما أشياء غير مفهومة.

معضلة الجوع ليست إشكالية اقتصادية بقدر ما هي أخلاقية، بعد أن بات إطعام الأثرياء طريقا إلى تجويع الفقراء، على حد تعبير الكاتب البريطاني الشهير “باتريك سيل”، في مقال له جاء تحت عنوان “العالم مهدد بخطر المجاعة”.

حل أزمة الغذاء العالمي يتطلب قدرا من التسامح والأخوة الإنسانية، ومشاركة وجدانية وقلبية، ممن لديه، مع الذي لا يملك، ولعل الإمارات العربية المتحدة تعطي مثالا ونموذجا رائدا ورائقا في منهجية العطاء.

الخلاصة.. مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى