هل تتحقق توقعات كيسنجر؟
بعد تسعة أشهر، وبالتحديد في مايو/أيار المقبل، يتم بطريرك السياسة الخارجية الأمريكية، هنري كيسنجر، عامه المائة.
ومع تلك السنّ المتقدمة، يبقى قادرًا على إثارة الجدل عند أي تصريح يطلقه، ومن خلال أي منتدى يشارك فيه.
مؤخرًا في دافوس كاد “كيسنجر” أن يدفع زيلنسكي، رئيس أوكرانيا، للخروج عن عقله، وذلك حين طالبه بالتنازل بصورة أو أخرى عن بعض السيادة على أجزاء من الأراضي الأوكرانية، درءا لمزيد من هجمات القيصر بوتين.
مرة جديدة، وعبر حوار له مع صحيفة “وول ستريت جورنال”، كان “كيسنجر” يدفع العالم برمته، وليس الأمريكيين فقط، في طريق القلق والهلع، وذلك انطلاقا من حديثه عن “اختلال التوازن الدولي بشكل خطير والوصول إلى حافَة الهاوية مع روسيا والصين”.
والشاهد أنه حين يتكلم عميد الدبلوماسية الأمريكية عن روسيا والصين، فإن على العالم أن ينتبه جيدا، لا سيما وأنه عرّاب العلاقات من بكين إلى موسكو والعكس، عبر خمسة عقود ونيف.. ماذا نعني بذلك؟
لكي نفهم طبيعة العلاقة بين مثلث واشنطن، موسكو، بكين، يتوجب علينا الرجوع إلى زمن الحرب الباردة، والآلية التي أدارت بها واشنطن علاقاتها وأزماتها مع السوفييت.
كان كيسنجر صاحب نظرية “استمالة بكين”، حتى تبقى موسكو وحيدة في الميدان، ولهذا بادر بالتنسيق مع رئيسه، نيكسون، في تطبيق دبلوماسية “البنج بونج” في أوائل سبعينيات القرن المنصرم.
اختلف الأمس عن اليوم، إذ لم تعد روسيا هي الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، بل الصين، وعليه فإن سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان هدفها نشوء وارتقاء حلف أمريكي-روسي جديد، ولو بصورة غير علنية، لمواجهة نفوذ الصين المتصاعد، وقطبيتها القادمة دون أدنى شك عما قريب، إن لم تكن قد بلغت تلك المرحلة بالفعل.
حوار كيسنجر مع “الوول ستريت” يلفت الانتباه إلى أمر مهم وحيوي، فالرجل يُقرّ بأن الأمريكيين مسؤولون ولو جزئيا عن حالة حافة الحرب، ومن غير امتلاك أي فكرة عن كيفية إنهائها.
كيسنجر يؤكد إشكالية ساكنة الروح الأمريكية منذ زمان وزمانين، وهي تكافؤ الأضداد، أي الإقدام على الشيء وعكسه، وقد تكون هذه حادثة، فيما الكارثة تتمثل في فتح صندوق الباندورا، كما تخبرنا الميثولوجيا اليونانية، ومن غير أدنى مقدرة أو فكرة عن إغلاقه، وهذا ما جرى في فيتنام نهاية ستينيات القرن الماضي، وفي العراق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
هل واشنطن باتت ترتكب أخطاء تاريخية بالفعل تدفع في سياق تلك الحرب التي يتوقعها كيسنجر؟
لتكن البداية من عند روسيا بنوع خاص، حيث الجميع يخشى من حالة سخونة الرؤوس، والتي يمكن أن تؤدي إلى مواجهة نووية، تجنّبها العالم عبر أربعة عقود.
ما جرى في مطار القرم، والتفجيرات التي طالت الطائرات العسكرية الروسية الحديثة، دفعت العالم في طريق التساؤل عمن لديه القدرة على القيام بمثل تلك العملية، ما لم تكن في حوزته أسلحة أمريكية متقدمة، ودعم عالي المستوى من الأقمار الاصطناعية الأمريكية تحديدا.
يخيف الصمت الروسي أكثر من الكلام، وموسكو حتى الساعة متكتمة على ما جرى، وكأنها تجهز ردًّا لا يُصد، قد يكون بداية انهيار جبل الثلج المتوقع بين البلدين والدخول إلى منطقة النقطة “أوميجا”، حيث النهاية المتوقعة.
على صعيد آخر يتردد في الداخل الأمريكي حديث، ولو هامس، قد يرتفع عما قريب، عن قيام الولايات المتحدة بـ”تصنيف روسيا دولة راعية للإرهاب”، وذلك بعد يومين من تصنيف برلمان لاتفيا روسيا كـ”دولة راعية للإرهاب”، بسبب الحرب في أوكرانيا، وكذلك موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي على قرار يدعو وزارة الخارجية إلى الاعتراف بذات الأمر، وضغوط من مشرّعين أمريكيين من كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، على الرئيس جو بايدن نحو ذات التصنيف.. ماذا يعني هذا التوصيف لروسيا؟
بالتأكيد دخول العلاقات الروسية-الأمريكية في دائرة المواجهة السياسية أول الأمر، والعسكرية تاليا، وقد تزداد مخاطر الصراع إذا أقدمت واشنطن بنوع خاص على تجميد الأرصدة والأصول الروسية على الأراضي الأمريكية، وصولا إلى نقطة انعدام أي تنسيق عسكري بين موسكو وواشنطن، ما يفتح الباب للقارعة النووية المحتملة بشكل كبير.
ماذا عن الجانب الصيني؟
المقطوع به أن رؤية واشنطن للصراع القادم مع الصين تتجلى يوما تلو الآخر، وعلى غير المصدِّق أن يراجع فكرة حلف “أوكوس” مع أستراليا وبريطانيا، هناك حيث يتوقع أن تزود واشنطن الأستراليين بغواصات نووية من نوع فرجينيا، قادرة على تهديد كبريات المدن الصينية، من العاصمة بكين إلى شنغهاي الحاضرة المهمة.
الصين تدرك أهداف الحصار الأمريكي، وقد هددت بدورها باستخدام صواريخها النووية لمواجهة الهيمنة الأمريكية في مياه المحيط الهادي، وها هي تسعى في طريق تكوين ترسانتها النووية الهائلة.
حين يرى كيسنجر أن السياسات الأمريكية تسهم في الوصول إلى حافة الهاوية، فإن الرجل يلمح من طرف خفي إلى أمرين، الأول هو الزيارة الاستفزازية لرئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، والثاني زيارة أخرى لخمسة نواب أمريكيين مطلع الأسبوع الجاري لتايوان.
تحذيرات كيسنجر لبلاده بشأن محاولة دفع تايوان في طريق مناوئ للإرادة الصينية، أمر يعني أن الخطر قريب، والحذر واجب.
حوار “الوول ستريت جورنال” يدفعنا إلى القول إن فخ ثيوسيديديس، لم يعد منصوبا للعلاقات الأمريكية-الصينية فحسب، بل لثنائية التضاد الأمريكي من جهة في مقابل روسيا والصين من جهة ثانية، وهذا أسوأ كابوس يمكن أن تصحو واشنطن عليه في الحل والترحال، وفي الحال والاستقبال.. فانظر ماذا ترى؟