سياسة

هل ينتصر الأزهر على شيوخ “الترند”؟


هاجت الدنيا وماجت في مصر قبل أكثر من 10 سنوات، مع أحداث يناير 2011، ودفعتنا الأحلام دفعا للهدم بمعاول البناء.

لكن، ظلت “لكن” هي عقبتنا العنيدة، ومن ضمن ما شغلني وبشدة حينها، ما سمعت أنه ضرورة وهو: “تجديد الخطاب الديني”.

ووسط مطالب التجديد والثورة على القديم، ودعوات “الهدم” بداعي عدم مواكبة محتوى كتب التراث لقضايا العصر وغيرها مما دار ويدور، لكن أغلب تلك الدعاوى اصطدم بمؤسسة الأزهر ونالها جانب كبير من محاولات “المعاول”، خاصة في ظل تصدر إما شيوخ التشدد للمشهد، وإما دعاة التفريط.

ضبابية المشهد، وأحيانا عبثيته، في تلك الفترة، التي شهدت انفتاحا للمجال العام بشكل فوضوي غير مسبوق، وغير متوقع، أتاحت فرصا لا تُصدّق، خاصة مع تنامي وتغول الاهتمام بشبكات التواصل الاجتماعي، ما أتاح أرضا خصبة لبزوغ نجم دعاة التشدد يقودهم من الخلف المشروع الإخواني المتطرف، يجابههم غلاة التفريط، وعلى استحياء من يشابه الفريقين من مؤسسة الأزهر.

المشهد الدعوي العبثي الضارب في القدم، والمستمر حتى الآن، والمتأرجح طوال تلك الفترة بين التشدد والتطرف تارة، والعبثية والاستخفاف تارات، حصر الناس بين إما الاستسلام لصورة مخيفة للدين خلقها إرهاب الإخوان، وإما الهروب لدعاة “الترند” و”الإفيهات”.

وبين مقاومة الاستسلام واستنكار الهروب، قادتني رحلة البحث عن “الوسطية”، لمحاولة اختراق جدران ذلك الكيان العتيق المتهم دائما بالإخفاق في تجديد الخطاب الديني والجمود، وأسَر الناس بين مجلدات التراث، وبعد محاولات الاختراق والتسلل كانت الفرصة من باب يُدعى “الرواق الأزهري”، وحينها كان المنفذ الوحيد الذي يسمح لغير “الأزاهرة” بالدخول لتلقي العلم الشرعي.

والأروقة العلمية من واقع البيانات الرسمية تم تدشينها بناء على مبادرة من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، هادفة لإعادة إحياء فكرة “الأروقة الأزهرية”، لتمارس دورًا في تقديم وتيسير شرح العلوم الشرعية والعربية، وفق المنهج الأزهري الوسطي المنضبط، لطلبة العلم من جميع الأعمار، لقطع الطريق على المروّجين للأفكار الهدامة والمتطرفة، ذلك ما قرأته منهم عنهم، وما رأيته بنفسي “طالبا” بين أروقة الأزهر.

على مدار قرابة العام تنقلت بين الأروقة متلقيا للعلم الشرعي تحت عناوين غير مألوفة: معالم المنهج الأزهري.. مقدمة في علم التوحيد أو العقيدة.. المذاهب الفقهية.. علم النحو.. علم الحديث.. وعلوم القرآن.. علم البلاغة.. آداب طالب العلم.

خلايا نحل تعمل في هدوء وسكينة، بادية على وجوههم علامات وقار العلم، وتواضع العارفين، ففي هذه الزاوية يجلس الشيخ محمد مهنا ليشرح سمات ومعالم المنهج الأزهري، ويأخذك في عالمه الصوفي المقيد بالكتاب والسنة، ولا يغادر ذهني مقولته التي لا يملُّ من نقلها عن شيخه محمد زكي الدين إبراهيم، وأنقلها عنه كما سمعتها ودوّنتها بتصرف:

“ليس التصوف رقص الراقصين ولا طبل وزمر وتصخاب وتهييج..
ولا هو الذكر بالألفاظ ساذجة محرّفات ولا صعق وتشنيج..
ولا مواكب رايات ملونة فيها لما يغضب الديانَ ترويج..
ولا هو العِمة الكبرى ولا سبح حول الرقاب ولا جمع مفاليج..
ولا التعطل أو دعوى الولاية أو صنع الخوارق أو كذب وتدبيج..
ولا وشاح وعكاز ولا نسب إلى النبي من البهتان منسوج..
ولا الإجازات تشرى أو وظائف صرفها بالزيف ممزوج..
ولا مظاهر آثام الموالد أو تكاثر برجال خيرهم عوج..
وليس بفلسفات الهوج ينقلها كالببغاوات جهلا قلة هوج..
إن التصوف فقه الدين قاطبة والفقه بالدين توثيق وتخريج..
هو الكتاب وما جاء النبي به وكل شيء سوى هذا فمحجوج..
إن التصوف سر الله يمنحه من قد أحب وحب الله تتويج..
وإنما الحب أخلاق ومعرفة ذكر وفكر وترويح وتأريج”.

وهنا الشيخ عبد الفتاح العواري يكشف خبايا “أنوار التنزيل وأسرار التأويل”، والدكتور محمد أبو موسى “شيخ البلاغيين” يسبر أغوار الكلام في “كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني”، والدكتور محمد ربيع الجوهري يحل إشكاليات “الخريدة البهية في علم العقيدة الإسلامية”، والدكتور ربيع الغفير يُبحر في علم النحو عبر “العوامل المائة للجرجاني”، والشيخ عبد العزيز الشهاوي يؤدي “الرحبية” في علم المواريث، والشيخ أبو اليزيد سلامة يشرح “اللباب في شرح الكتاب” في الفقه الحنفي، والشيخ محمد حسن عثمان يرد “شبهات لغوية حول القرآن الكريم”، والدكتور شعبان عطية غارق في “اللآلئ الحِسان في علوم القرآن”.

وهناك الشيخ العلامة “المحدّث” أحمد معبد عبد الكريم يرشدك لفضيلة إخلاص النية في طلب العلم، ويدلك على “آداب طالب العلم” ويبحر في “فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي”، والشيخ أحمد الحجار يكشف خبايا علم الرجال ويشرح “مقدمة ابن الصلاح-مراتب الجرح والتعديل”، والدكتور أسامة مهدي يشرح “منهج الإمام أبي داوود في سُننه”، والشيخ سيد شلبي يؤصّل للتصوف الأزهري من مدخل “مكارم الأخلاق”.. وهؤلاء غيض يسير من فيض كثير.

ما أدهشني في التجربة ليست تلك الأسماء الرنانة والعناوين المسجوعة للكتب، ولكن هؤلاء الأئمة والشيوخ، فرغم ما يفيضون به من علم ومنهج نقدي حتى لذواتهم والتراث، وغنى في أساليب التدريس، وربط الموروث بفقه الحاضر والتطورات الحاصلة، وتبسيط يحبّب ذلك العلم المتروك للسامعين، بقدر ما أدهشني غيابهم عن المشهد العام، وتصدر غيرهم من المدعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى