توازنات جديدة في مسارات الأزمة الروسية الأوكرانية
رويدا رويدا تتحول الأزمة الروسية الأوكرانية لحرب مفتوحة على المستوى الإعلامي والسياسي.
وذلك في إطار ما يجري من عمليات عسكرية روسية، وتصعيد أمني واستراتيجي يستهدف العمل على مسارات جزئية وليست كلية، وهو ما برز في توقف آفاق المفاوضات الدبلوماسية الجادة، واقتصار ما يجري في إطار أعمال إنسانية بعد الوصول تدريجيا إلى الأهداف الروسية في أوكرانيا، والتي ارتبطت بالأساس بالعملية العسكرية، ومخططها الموضوع سلفا، وهو ما نجح الجانب الروسي في تحقيقه بصرف النظر عن المواقف الأمريكية والغربية خصوصا، فما تزال أوكرانيا في حاجة إلى السلاح للمواجهة الراهنة والمحتملة، وهو ما أعلن مؤخرا من الدول الحليفة وفي إطار حشد أمريكي لافت لتجميع الدول الداعمة، كما أن الدول الغربية لها حساباتها المحددة، ليس في نطاق الناتو فقط، بل في خارجه أيضا، وهو ما يجب تفهم أبعاده جيدا، خاصة أن الجانب الروسي لا ينظر جليا لحجم الخسائر، التي تنتج من استمرار العمل العسكري والاستراتيجي في أوكرانيا، باعتبار أن سيناريو ما جرى في شبه جزيرة القرم قابل للتكرار، مع الفارق في المهام والأولويات الاستراتيجية، التي يعكف على إنجازها الجانب الروسي في مسارح العمليات المختلفة.
فليس صحيحا أن روسيا كان من ضمن أولوياتها إسقاط النظام الأوكراني، أو تصفية الرئيس الأوكراني أو نخبته، فالمهام الكبرى، التي عملت عليها روسيا، تجاوزت ذلك لتحويل أوكرانيا لدولة لا تمثل أي قلق لروسيا في المدى الطويل، وهو ما جرى بالفعل وتحويلها لدولة حبيسة، ومنع تمدد حلف الناتو شرقا، كما نجحت موسكو في فرض رسائل ردع كبرى لكل الأطراف الدولية بالقدرة على المناورة والتعامل، وفي ظل مخططات موازية لدول مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وغيرها، بدليل ما جرى مؤخرا من إقدام الصين على توقيع اتفاق أمني واسع مع دولة “جزر سليمان” وما تلاه من إبداء الولايات المتحدة وأستراليا واليابان ونيوزيلندا تحفظاتها إزاء توقيع اتفاقية إطارية للتعاون الأمني بين الصين ودولة “جزر سليمان”، حيث كان التحفظ بشأن الاتفاق، فضلا عن المخاطر الجسيمة، التي يشكلها على حرية وانفتاح منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث ستكون الصين متمكنة من الحصول على بعثة عسكرية دائمة في أراضي هذه الجزيرة، وبناء قاعدة عسكرية هناك، ما سيعزز بشكل كبير موقع بكين في المنطقة.
هذا نموذج لما سيجري من تطورات استراتيجية في هذه المنطقة بتعقيداتها الكبيرة والممتدة، إذ ستكون الحرب الأوكرانية الروسية نموذجا لما هو قادم من ترتيبات أمنية انفرادية، خاصة من الدول الكبرى.
في هذا الإطار ستظل القوات الروسية تقصف الأهداف العسكرية الأوكرانية، حيث بدأت روسيا مؤخرا هجوماً جديداً في شرق أوكرانيا، مع زيادة حدة الهجمات في أجزاء من منطقتي دونيتسك وخاركيف، مع تأكيد أن القوة العسكرية الرئيسية لروسيا تركز الآن على السيطرة على منطقتي دونيتسك ولوهانسك بالكامل، ومنطقة دونباس في شرق أوكرانيا، مع مواصلة الضربات بعيدة المدى على مناطق أخرى، بما فيها كييف ومدينة خاركيف.. مع توقع قرب سقوط مدينة ماريوبول الاستراتيجية.
على جانب آخر، لا يزال الجانب الأوكراني في حالة تخبط وتناقض في خطابه الإعلامي والسياسي، وهو الأمر المرتبط بموقف الرئيس الأوكراني نفسه، والذي لا يزال يستجدي الغرب لتزويد كييف بأسلحة ثقيلة من أجل تخفيف الضغط على ماريوبول، ورفع الحصار عن المدينة، التي كان يعيش فيها 441 ألف شخص قبل بدء العملية الروسي جنبا إلى جنب استمرار دعوة زيلينسكي لمسار التفاوض، ومن خلال حل دبلوماسي، برغم صعوبة تحقيق ذلك وسط استمرار العمليات العسكرية، وتصميم الجانب الروسي على تحقيق كامل أهدافه السياسية والاستراتيجية، وفي ظل إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الولايات المتحدة سترسل مزيدا من الدعم العسكري إلى أوكرانيا.
في مقابل ذلك، إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن الهجوم، الذي أطلقته روسيا في مناطق الشرق الأوكراني، مع تأكيده أن المرحلة التالية من العملية العسكرية الروسية قد بدأت، وأنها لحظة مهمة في هذه العملية، وتستهدف التحرير الكامل لجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، وستستمر هذه العملية حتى تحقيق كل أهدافها.
في المجمل، فإن مسارات ما يجري روسيا وأوكرنيا مرتبط بغياب الإرادة السياسية المشتركة بين الجانبين للحل والحسم، مع استمرار الجدال الأمريكي والغربي بشأن الأسلحة، التي تحتاج إليها أوكرانيا، وشحنات الصواريخ المضادة للدروع ونوعية الطائرات التي يمكن استخدامها ضد الدبابات والمروحيات الروسية.. إضافة إلى وضع وتحصينات كييف، وكيف يمكن للدول الغربية فرض مزيد من الضغوط الاقتصادية على روسيا، وكذلك التماهي مع نداءات أوكرانيا لفرض منطقة حظر طيران فوق سمائها، إذ سيتطلب ذلك من حلف الناتو إسقاط الطائرات الروسية، بما يمكن أن يؤدي إلى صدام مباشر، وتحويل الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حرب شاملة في أوروبا.. خاصة بعد سحب روسيا قواتها من المناطق المحيطة بكييف، وتركيز جهودها على دونباس، التي يسيطر عليها جزئياً الموالون لموسكو منذ 2014.. إضافة إلى اتضاح الهدف من التقدم الروسي في منطقة لوهانسك بعزل القوات الأوكرانية في بلدات روبيغني وليسيتشانسك وسفرودونتسك، والإعلان عن استعداد 25 ألف جندي من الجيش الروسي لتوسيع الهجوم من مدينة إزيوم نحو سلوفيانسك وكراماتورسك في منطقة دونيتسك.
تبقى الإشارة المهمة المرتبطة بتصميم روسيا على الحسم وفقا للأهداف الموضوعة، ومنها تأكيد أن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لم تكن خياراً بل أمر حتمي ومباشر ومهم، وذلك في إطار تصرفات القوات الروسية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، والتي تظهر صحة الأولويات التي حددتها القيادة العسكرية والسياسية في بناء القوات المسلحة الروسية، واعتبار ما يجري في أوكرانيا مقدمة لما يجري من مشاهد تالية، حيث ستصبح الأزمة الروسية الأوكرانية مرتبطة بما سيأتي في ظل سيناريوهات عسكرية وسياسية عدة، منها ما قدمته الأمم المتحدة مؤخرا من اقتراح بعقد اجتماع بين روسيا وأوكرانيا لبحث القضايا الإنسانية، والسعي نحو إيجاد صيغة مناسبة للتسوية وتقريب مواقف الطرفين، وهو ما قد يتم إذا توافرت فرصة لإبرام اتفاقيات بين روسيا وأوكرانيا في المدى المتوسط.
ومع عدم وجود وساطات حقيقية تتدخل في مسارات ما يجري، وتحدد اتجاه ما يمكن أن يجري، وفي ظل ترقب صيني للعب دور مهم ومحوري -شريطة الحصول على مكتسبات أولية وفق ترتيبات أمنية- ومن خلال مقاربة مشتركة مع روسيا من جانب والدول الغربية والولايات المتحدة من جانب آخر، فإن الأزمة ستظل ماضية في مساراتها واتجاهاتها الراهنة.